حوار مع خورخي لويس بورخيس: ألعاب مع مرور الوقت ومع اللانهاية

8:25 ص


أجرى الحوار: دون بيل

ترجمة: الحسن علاج

تقدمه لنا الصور السلبية الأخيرة التي التقطت له مثل شيخ جدير بالإجلال ، ذي نظرة غائبة ، ضاغطا على نُفيحة عصا بيضاء . عمليّا عبر خورخي لويس بورخيس عصرنا واسما إياه بعمق وبأصالة صوته الجديد . هو أب لأدب أمريكا الجنوبية ، فقد منح صوتا لقارة . على غرار العمالقة مثل بروست وكافكا ، نجح في التأثير حتى في الكُتّاب الذين كانوا يتجنبون قراءته . هذا هو ما يجعل عمله إلى حد ما يصبو المرء إلى إعادة قراءته . من يجرؤ فعلا على الاعتراف بعدم معرفته بكتاب تخييلاتFictions) ( ؟ ومع ذلك … فمن أجل الاحتفاء بذكرى من غادرنا سنة 1986 ، تقدم مجلة Nuit blanche) ( لقاءات ثلاثة لا تزال غير منشورة بالفرنسية . فرصة مفاجئة لإعادة اكتشاف أمين مكتبة بابل .

” منذ سنوات ، وأنا أحاول التخلص منه وقد مررت بأساطير الضواحي في  الألعاب مع مرور الزمن ومع اللانهاية … 1 ”

فارق خورخي لويس بورخيس الحياة بجنيف عن سن تناهز السادسة والثمانين . لاشك أنه كان الكاتب اللاتيني الأمريكي الأكثر تأثيرا للأزمنة الحديثة . مرشح أبدي لنيل جائزة نوبل للأدب التي كانت ، شيء مدهش 2، تنفلت منه باستمرار ، ذاع صيت بورخيس بفضل قصصه القصيرة المشوشة ، التي كان يسميها ficciones) ( ، كما هو الحال بالنسبة لخرافاته ، أمثولاته ، مقالاته وقصائده الشعرية .

      قبل حوالي عشرين عاما ، أقام فترة قصيرة بأمريكا الشمالية ، بجامعة هارفارد ، حيث شغل كرسي إليوت نورتون Elliot Norton) ( في أثناء تلك الفترة ، ذهب إلى مونتريال كي يلقي محاضرة حول الأدب الإنجليزي والحلم بجامعة السيد جورج وليامز Sir Georges – Williams) ( ( تحمل في الوقت الراهن اسم كونكوردياConcordia) ( ) . وبفضل المساعي الحميدة التي بذلها قنصل الأرجنتين في ذلك العهد ، م . هوغو ألفاريث M.Hugo Alvarez) ( ، كان لدي الشرف لقاء بورخيس وأن أحظى منه بلقاء طويل لصالح برنامج راديو Tuesday Night CBC) ( . وكانت النتيجة وهي فيلم وثائقي من خمسين دقيقة تحت عنوان بورخيس وأنا بحسب قصيدة بورخيس ذائعت الصيت التي أخذت منها السطور أعلاه..

       عندما كنت سألتقي بورخيس في 29 فبراير 1968 ، كان فترتئذ قد أصيب فعلا بالعمى ، على الرغم من ذلك ، فقد  كان بإمكانه إدراك ، لكن بصعوبة كبيرة ، ظلال اللون الأصفر ، الضوء والظلال . وبعد مرور بضعة سنوات سوف يُفتقد ذلك البريق بالنسبة إليه . ” إنه بيت شعري لفرلين لم أعد أتذكره بعد / ثمة مرآة عكستني للمرة الأخيرة … ” كتب بورخيس في قصيدته التي لا تنسى ” حدود ” ، مستحضرا ألم شيخوخته وهو أعمى .

    كان أمامي رجل صغير هزيل ، متذثرا ببذلة رمادية تمنحه في الوقت نفسه مظهرا متقنا ومحافظا ، وهو ما كان يمكن للمرء توقعه تماما  من توقعه من علاّمة لاتيني أمريكي ذي جذور أوروبية . لقد تبدى لي عن إنسان طبيعي لطيف ومحبب إلى النفس . ( أتمنى في الوقت الراهن تدوين مزيد من التفاصيل حول إطار اللقاء أو حول مظهره الخارجي ـ أراه مرة أخرى مستندا على عصاه ، مائلا إلى الأمام في متكإه . على أنه مع بورخيس ، فإن الكلمات ، إيقاع الكلام ، الأفكار تتجاوز السياقات مهما كانت . )

      حضرت إلى المقابلة على أكمل الاستعداد بمعية مسجل صوت مستأجر من نوع Uher) ( مع حمالته والعديد من الأوراق ترصّ لائحة أسئلة بكاملها ضُربت على الآلة الكاتبة بعناية . لقد قرأت وأعدت قراءة كل تخييل fiction) ( ، قصيدة شعرية ومقالة في أنطولوجيا شخصية ، يرجح أنه العمل الأكثر نجاحا لبورخيس ، بهجة حقيقية بالنسبة للقارئ الذي يرغب في الاستغراق بسرعة في العمل 3 . ففيه يتم العثور على محكياته العظمى : ” الموت والبوصلة ” ، ” الجنوب ” ، ” فونيس أو الذاكرة ” ، ” الألف ” ، ” الأنقاض الدائرية  … ” وقصائده الشعرية التي تستحق الذكر ، ” بورخيس وأنا ” ، ” حدود ” ، ” النمر الآخر ” .

      لا أزال أتذكر حرارة قبضة يده ، كما لو أنه فشل في رؤيتي ، كان يرغب في التعرف عليّ من خلال مسام الجلد من أجل اكتشاف الكائن الذي كان يتواجد أمامه . بدد استقباله من حالتي العصبية : بدا مهتما بكل سؤال وفضوليا عن كل شيء ، لا يظهر أي غرور أو ادعاء . في تلك الأثناء ، لم يكن بورخيس شهيرا في العالم الناطق بالإنجليزية ( كانت شهرته في بدايتها ، تحت تأثير كُتَّاب مثل أبدايك Updike) (   ، بارت ونابوكوف الذين قام باكتشافهم ؛ في حين أنه بالنسبة للجمهور الإسباني ، كان بالفعل عملاقا أدبيا ). ومع ذلك فقد كان لديه بالفعل متابعون وكنت أشعر أنني أنتمي إلى النخبة المحظوظة التي فتنت صدفة بقراءة ما ، كما لو أنني كنت عضوا في مجتمع سري ـ رعناء هي بعض أسئلتي ، كنت أعتبر ـ وأعتبر دائما ـ أن الأمر كان يتعلق بامتياز خاص ، إن لم يكن هبة من ربّات الفن الساهرات على قدري كوني ، تمكنت من لقاء وتسجيل هذا الشيخ الساحر ، هذا المعلم الحكواتي الذي كان يعرف كيف يؤثر في أعماقنا بفضل تعاطفه مع التباساتنا الخاصة . كانت بذهني ثيمات العمل الكلية الحضور والعاكسة ومعالجتها من قبل ذلك المؤلف النادر : سخرية على سخرية ، مفارقات ، مفاهيم زمكانية وهويات كاسرة للأشعة ؛ التباس شخصياته ( الذين هم الذين  ؟ ـ انظر ، على سبيل المثال ، ” شكل السيف ” ) ؛ لقاءاته مع قُرناء ، الغوليم golem) ( ، الزهير Zahir) ( وموسوعته عن الحيوانات . ففي محكياته ، كما هو معلوم ، الاستشهادات بالنصوص القديمة يمكن أن تكون ابتكارات بورخيسية خالصة . وإليه ينسب التأكيد بأن كافكا أثر حتى في الكُتّاب الذين سبقوه . أمامي إذن الشخصية بورخيس ، نزوي ، غريب الأطوار ، مسلّ ، كما أنه مرتاح بالمكتبة الوطنية لبوينس آيرس مسقط الرأس ، ( من سخرية الأقدار أنه شغل مديرا لها عدة سنوات في حين أنه لم يكن يملك القدرة على قراءة أي كتاب بالنظر إلى سوء بصره ) ، كما كان في الأزقة القديمة لجنيف التي عبرها طارقا البلاط بعصاه ( ” مدينة من مدني /

كان يفترض أن أموت /

جنيف / حيث أتانيَ الكشفُ ؟ “4 ، يتساءل في واحدة من قصائده الشعرية الأخيرة ) أو لم يكن يتمتع بالراحة ، في الواقع ، فهو يتلفظ من أجلي بصبر وأناة في غرفة بفندق بمونريال في 29 فبراير 1968 .

      ها نحن أولاء . بكرة 1 ، جانب 1 . استخدموا المسجل ، صالحpor)  favor) ، على شرف السيد بورخيس الذي لن يمر للتو ـ دون بيل (Don Bell) ، مونريال ، 1968 ـ

أن تكون كاتبا أرجنتينيا أو لا تكون

دون بيل ـ بورخيس ، لو قمت بتهييء برنامج إذاعي بخصوصك وترغب بداية بتقديم وصف لشخصك وأيضا لعملك ، ماذا كنت ستقول ؟

خورخي لويس بورخيس ـ طيب ، أفترض أنني أرى نفسي مثل كاتب ، ومثل أستاذ للأدب الإنجليزي و ـ اسمح لي كي أبوح لك بسر ـ كطالب للإنجليزية القديمة ، اللغة الأنغلوساكسونية . وأحيانا ، أتصور نفسي أشبه برجل في حيرة شديدة لكن ، في الوقت الحالي ، لأنني ربما أتواجد في كندا ، أتصورني مثل رجل سعيد ومفعم بالأمل في المستقبل .

دون بيل ـ تولي أهمية كبرى ، في كتاباتك ، لجذورالأبطال . أفكر بشكل خاص في يُهانس دالمن (Johannes Dahlmann) ، بطل محكي ” الجنوب ” . فقد كان نصف ألماني ، نصف أرجنتيني و ، الأهم من ذلك ، أن أحداث القصة تدور في عام 1939 . هل حدث أن قمت بتحليل أهمية أصولك في تطور روحك المبدعة ؟

خورخي لويس بورخيس ـ  حسنا ، أنا من أصل إسباني ، برتغالي و ، لا ننسى ، الأصل الإنجليزي . لكني أحب أن أصدق أنه لا ينبغي توفر مزيد من الدم الإنجليزي كي يكون ذلك ضروريا . لما كنت طفلا ، كنت أراني كأرجنتيني كِفاية . ثمة شيء يصعب تقديم تعريف له ، على أنني أعرف ومواطنيّ الأرجنتينيون يعرفون أيضا ماذا يعني هذا . في الوقت الراهن ومع مرور الوقت ، يُقال أنني أعود إلى الوراء ، وأنني أفكر في أسلافي الأنجلوساكسونيين الذين كانوا يتحدّرون من أصول نورتومبيرلندية Nurthumberland) ( . ولا أجد هناك أي تناقض في ذلك . أنا لا أتصور نفسي من دم إنجليزي ، وفي اللحظة الموالية باعتباري من أصل إسباني .  ما يهم حقيقة ، هو أن المرء يوجد في الوقت الحاضر .

دون بيل ـ قرات أنه تتم مؤاخذتك ، في بلدك الأرجنتين ، لكونك لست كاتبا إقليميا . ماذا كان رد فعلك تجاه هذا النقد ؟

خورخي لويس بورخيس ـ طيب ، كي أكون صريحا ، أعتقد أن لا معنى لذلك . علاوة على ذلك ، فأنا أرجنتيني ، أبي وجدي كانا أرجنتينيين من قبلي ، إلا أن جدتي كانت إنجليزية . لا أرى لماذا ينبغي علي تبرير كوني أرجنتينيا ، بما أنني واحد . لن أقلق بشأن ذلك . أحاول أن أبدل كل ما في وسعي كي أكون معاصرا . ففي كتابي الأول حماسة بوينس آيرس (El Fervor de Buenos Aires) ، الذي ظهر سنة 1923 ، أتحدث فيه عن المشهد الطبيعي الأرجنتيني ؛ ويستحيل علي النأي عنه . وحتى في قلب أيوا Iowa) ( قبل بضعة أسابيع ، فقد داهمني على حين غرة إحساس بتأثير كبير لم يكن تماما بسبب كوني سعيدا بتواجدي بأيوا ، بل لأن مدح الغرب الأوسط يمنح تماما ما يمنحه سهل البامبا Pampa) ( المعشوشب في الأرجنتين . قلت في نفسي : ها أنا ذا في أمريكا ، لكنني عدت أيضا إلى بلدي . وقد اكتشفت أن ذلك كان تدبيرا موفقا .

كسل لا يُقهر !

دون بيل ـ من الغريب أنه لم يسبق لك أبدا أن كتبت أكثر من عشر صفحات أو اثني عشرة صفحة . علامتك التجارية هل تسمى ficcciones) ( أو تخييلات fictions) ( . هل تعتبر مختلفة عن القصص القصيرة ؟ كيف يمكنك تقديم وصف لتخييل ما ؟

خورخي لويس بورخيس ـ أعتقد أني سأصفه مثل قصة قصيرة ، نعم . على أنه فيما يتعلق بإيجاز كتابي ، أستطيع أن أعطيك سببين . السبب الأول هو كسلي الذي لا يُقاوم . أما السبب الثاني يكمن في أنني  لطالما تدلهت بالقصص القصيرة ثم إني أجد على الدوام صعوبة في الوصول إلى نهاية روايات الآخرين ، باستثناء بعض الأعمال مثل ، لاحظ … ، رواية شارل ديكنز Pickwick Papers)  ( ورواية مارك توين Huckleberry Finn) ( ، دون كيشوت ، رواية لورد جيم Lord Jim) ( لجوزيف كونراد وآخرين . كما أني مهتم بكبلين Kipling) ( ؛ لم أكتشفه إلا في آخر أيام حياته ، كان بمقدوره أن يضم إلى قصة قصيرة العديد من الشخصيات إن لم يكن أكثر من الأغلبية التي لا تستطيع أن تدمجها في رواية ما . كما إني كنت أقول لنفسي أنني أحب على وجه الاحتمال محاولة هذا النوع من اللعب وكتابة قصص قصيرة حيث تتكوم الشخصيات . وبحكم كوني كسولا جدا

عن التعليم (و) الحب

 فإني ” أعتقد أنه بالإمكان فقط تدريس الحب من أجل شيء ما . فبالنسبة لي ، فقد درست ، ليس الأدب الإنجليزي ، بل حب هذا الأدب . أو بالأحرى ، الحب بالنسبة لبعض الكتب ، بعض الصفحات ، وربما بعض  الأبيات الشعرية ، بما أن الأدب غير منته افتراضيا . لقد قدمت هذا الدرس طيلة عشرين سنة بجامعة الفلسفة والآداب . كان لدي ما بين أربعين وخمسين طالبا وتصرفت في أربعة أشهر . التواريخ وأسماء الأعلام لم تكن ذات أهمية ، لكنني توفقت في أن أحبب لهم بعض المؤلفين وبعض الكتب . وثمة مؤلفون لا أعتقد أنهم جديرون بذلك ، لن أتحدث عنهم إذن . لأنه عند الحديث عن مؤلف ما ، فلابد أن يُكتشف من قبل شخص ما . بمعنى أن ما يقوم به أستاذ هو اكتشاف أصدقاء من أجل الطلاب . سواء أكانوا معاصرين ، أو موتى منذ قرون ، أكانوا ينتمون إلى هذه الناحية أم إلى تلك ، هذا هو أقل ما يمكن القيام به . الأهم هو العمل على اكتشاف الجمال ، وبالإمكان فقط اكتشاف الجمال عند الإحساس به . (…)

      ” إن الحب هو شيء أساسي جدا إلى حد أنني لن أستطيع تقديم تعريف له من دون اختزاله في كلمات . أعتقد أنني لطالما كنت محبا ؛ قد يكون ذلك مثيرا للسخرية ، في هذه السن ، لكن الحقيقة أن الحب يرافقني . الحب والصداقة . وألاحظ ـ ثم إن هذا يبهجني ـ أنني لم أشعر بالحقد أبدا في حياتي . لما كنت صغيرا ، عُلّمت الكراهية تجاه قريبي البعيد ، خوان مانويل دو روزاس Juan Manuel de Rosas) ( ، واعتقدت أنني أكرهه . ليس في الوقت الحالي ، الآن أشعر أنني قادر على الحب ، الصداقة ، لكن ليس الكراهية ، ثمة أشياء ، بطبيعة الحال ، بإمكانها إيلامي ، لكننني أحاول نسيانها . قال برغسون بأن الذاكرة انتقائية . من الممكن أن تكون ذاكرتي خاطئة ، لأن أبي ، وهو أستاذ في  علم النفس ، قال لي أن كل مرة يتم تذكر شيء ما ، فإن المرء يدخل عليه تغييرا خفيفا ؛ فحينما يتم التفكير طويلا في الأشياء ، فإنه يتم تعديلها شيئا فشيئا في الذاكرة ، التي تتكون ، كما أفترض من أجزاء كبرى من النسيان . طيب ، أشعر الآن أنني مفعم بالصداقة ، ملآن حبا وآمل الاستمرار في ذلك حتى لحظة ـ ليس بعيدا جدا ، أتمنى ـ موتي ، بما أنني اقترفت إفشاء السر بلوغي 86 سنة . والموت ، الذي هو أيضا يعتبر أملا ، يمكنه أن يحتفظ لنا بمفاجآت . أنا لا أعتقد ، أتمنى أن يمحوني الموت ، على أنه إن كانت هناك حياة أخرى بعد ذلك ، سأقبل بها كما قيلت بهذه الحياة . يعتاد المرء على كل شيء ، على الحياة ، الموت ، والألم الجسدي . ” 5

عن تأثير الكلمات

” لا أدري [للفهم] هل يمكنني التمييز بين [نبرة ومحتوى الكلمات ] . أود القول أن كل كلمة هي كائن ، جوهر ومن المحتمل أن لا وجود للمترادفات . لست على يقين أن عبارة luna) ( القمر معادلة تماما للعبارة الإنجليزية moon) ( القمر ، أو lune ) ( الفرنسية . لكن من المحتمل أن moon) ( و lune) ( هما أكثر قربا لأنهما كلمتان لهما مقطع واحد ، لكن لربما … أن كل كلمة هي كائن . فلهذا السبب أعتقد أنه من المستحيل ترجمة الشعر . بالنسبة لي ، فكلما أقرأ ترجمة لإحدى قصائدي في أي لغة من اللغات ، إلا وقلت : ” يا إلهي كم هي جميلة هذه الأبيات الشعرية ، أتمنى لو كنت أنا من كتبها ! ” (…)

      ” أعتقد أن نعم [ أن الشعر والنثر هما أداتان فضليان للكلمة ] : كل موضوع يشير إلى الكاتب ـ ليس ذلك متوقفا عليه ـ هل يرغب في أن يُعبر عنه شعرا حرّا ، الصيغ الكلاسيكية ، الكتابة الإيطالية ، السونيتة أو النثر . وهكذا فكر ستيفانسون  Stevenson) ( بأن النثر هو الشكل الأكثر تعقيدا للشعر . أكد ملارميه أن الاعتناء بما يكتبه المرء ، هو نظم الشعر . وبالنسبة لستيفانسون ، لو كان بحوزة المرء وحدة عروضية ( على سبيل المثال ، البيت ذو المقاطع الثمانية octosyllabe) ( للرومانس romancero) ( والأغاني الشعرية الرعوية payadores) (  ، يكفي ترديد هذه الوحدة لامتلاك القصيدة ؛ ويمكن لتلك الوحدة أن تكون البحر الإسكندراني alexandrin)  (، أو البحر سداسي المقاطع hexamètre) ( ، ـ نسق من مقاطع لفظية طويلة وقصيرة ، لكن … عندما تكون هذه الوحدة في حوزتنا فإنه لابد من تكرارها . خلافا لذلك ، ففي النثر ، لابد من التنويع باستمرار ، بطريقة تكون ممتعة . عندما شرعت في الكتابة ، ارتكبت خطأ بأن أغلبية الشباب الكُتّاب يتصورون : أن الشعر الحر هو شكل غاية في السهولة . وهو في حقيقة الأمر ليس كذلك . وستيفانسون الذي اعتبر النثر شكلا أكثر تعقيدا من الشعر ، ينضم إلى القول : لا وجود لأدب بدون شعر ، على أنه ثمة آداب لم تتوصل أبدا إلى مرتبة النثر . (…) ” يمكن لسحر الكلمات الاستغناء عن الشكل الخطي . يأتي الشكل الخطي بعد ذلك بكثير . سأقول أنه موجود في النبرة وإيماءات الكلمات ، في بيئة الكلمات . ومع ذلك ، سيكون من المحتمل أنه في الشعر الصيني والياباني تكون الكتابة ذات أهمية قصوى ، لأنهم يستعملون الkanyis) ( ، الكتابات الرمزية idéogrammes) ( . سأقول ، بأن الشكل الخطي ليس مهما . وسأقول أن الشعر هو قبل كل شيء ، الإيقاع .

     ” لما شرعت في الكتابة كنا كلنا تحت تأثير ليخونيس Lugones) ( . كان يعتقد أن الاستعارة تشكل عنصرا أساسيا في الشعر . وقال إمرسون أن اللغة هي الشعر الأحفور . فهو كان يعتقد أن الشاعر ينبغي عليه اكتشاف استعارات جديدة . وأنا أعتقد أن لا ؛ ثمة بعض الاستعارات أساسية يتلفظ بها مع تركيبات مختلفة ، مع نبرات مختلفة ؛ وهذا كاف بالنسبة للشعر . ومع ذلك ، أحيانا توجد استعارات جديدة ، لذلك ينهار كل شيء (…) ” إن أصل الكلمة ، هو بالأحرى سلسلة مغامرات للكلمة ، على أن تلك المغامرات مثيرة للاهتمام . أفكر في الوقت الحاضر ، على سبيل المثال ، في الكلمة الكارايبية ، اسم قبيلة بمنطقة البحر الكارايبي . ثمة ، والحالة هذه ، عبارتان معروفتان في العالم أجمع : آكل لحم جنسه cannibale) ( ، آكل لحم البشر anthropophage) ( ، وشخصية كاليبان caliban) ( … طيب ؛ ثمة اشتقاقات غريبة أخرى . لدينا كلمة blanco) ( الإسبانية ـ ما تعنيه هذه العبارة بديهي ـ ثم عبارة black) ( التي تعني أسود . وقد انزلقت في الإسبانية ، الفرنسية ، الإيطالية والبرتغالية إلى جانب الوضوح أما الآن فهي تعني أبيض blanc) ( . مثيرة للفضول ، مغامرة الكلمات هذه . تذكر عبارة ” تعويذة ” » abracadabra «  ، كل ما أعرفه هو وجودها في أول صفحة في أي موسوعة مهما كانت ؛ ثم إن ذلك يُكتب على شكل مثلث … ، هذا كل شيء . (…)

     ” [ تناوب في اللغة مثل وسيلة للتعبير سيكون ] ربما هو الموسيقى ، لأننا نعرف من خلال Pehiteers) ( أن كل الفنون تصبو إلى مرتبة الموسيقى . ليست لدي أذن موسيقية لسوء الحظ ، مع أنني أحب الموسيقى الشعبية ، لاسيما موسيقى البلوز والموسيقى الزنجية الروحية ، والميلونغا milonga) ( … لكنني أعتقد أن الفن السامي قد يكون هو الموسيقى . تمنيت أن أكون جديرا بالموسيقى . أرغب ، لكنني لست جديرا بهذا الفن ، أحبه عن بعد ، الذي بالكاد أميزه والذي سيكون بالنسبة لي الفن L’ART) ( . (…)

      ” لكي أقدم تعريفا للفن ، سأقوم بانتحال شخصية أختي نورا Norah) ( . فلقد طُلب منها بأن تعرف فن التصوير . فأجابت : ” فن إدخال البهجة من خلال الألوان والأشكال ” . إنه تعريف كأي تعريف آخر ، بطبيعة الحال . لكني أعتقد أنه تعريف جميل ، ” إدخال البهجة ” . ففي حالتي ، والحالة هذه ، لا أعرف ما إذا كانت التعريفات ذات أهمية ، يبدو لي أن الأشياء الأصيلة لا ترغب في أن تُعرّف ؛ كما لو كان علينا تعريف مذاق القهوة ، أو اللون الأصفر . من غير الممكن القيام بذلك . ” 6

اختيارات الكاتب

” كي تكون قادرا على كتابة الروايات ، لابد لك من أن تكون قارئ روايات ، وبالنسبة لي فقد قرأت القليل منها في حياتي . يبدو لي أنه يستحيل كتابة رواية من دون حشو . ومع ذلك فإني قرأت وأعدت قراءة دون كيشوت . بالإضافة إلى ذلك ، لو طُلب مني تسمية روائي ، سيكون كونراد ؛ ففي رواياته نوع ملحمي لم أجده عند آخرين . من بعد ذلك مباشرة ديكنز . لقد صرفت النظر عن كثير من الروايات المعروفة ؛ حاولت قراءة الحرب والسلم ، الجريمة والعقاب اللتين أثرتا في ، لكنني أخفقت مع فلوبير ، سارتر ، وآخرين في النهاية . خلافا لذلك ، يبدو لي أن القصة القصيرة يمكن أن تكون جوهرية ، يملك المؤلف كامل الحرية . يمكن لمؤلف ما امتلاك قصة قصيرة كاملة في ذهنه ، لكن ليس رواية ، لأنها تنكتب وتقرأ بالتتابع . الرواية هي شيء بالكاد يتمكن المرء من تمييزها عن بعد . لهذا السبب فإن الرواية بدون إطالة تبدو لي مستحيلة ، على أن قصة قصيرة لكيبلينغ مثلا يمكن أن تنفلت عن ذلك تماما .

     ” لم أكتب روايات لأنه بالنسبة لي ـ فأنا رجل خجول ـ ، ولوج رواية ما أشبه بالدخول إلى غرفة بها مائة شخص ؛ أشعر أنني منذهل إلى حد ما ، وبالتالي ينبغي التعرف عليهم ، لابد من معرفة من هم ، ما هي أواصر القرابة ، العلاقات فيما بينهم … كل ذلك يستوجب مني بذل مجهود جبار . إن القصيدة أو القصة القصيرة ، خلافا لذلك ، متاحتان على الفور ولا تتطلبان جهدا . (…)

      ” [ اللانهاية في ” كتاب الرمل ” ؟ ] تنتمي هذه القصة القصيرة لسلسلة قصص قصيرة ففيها ثمة شيء يتبدى بعد ذلك محتوما . فعلى سبيل المثال يمتلك ، فونيس Funes) ( ذاكرة لامحدودة ليموت مثقلا بواسطتها . في ” الزهير ” ثمة شيء لا يُنسى يقتل كل من يفكر فيه باستمرار . في ” كتاب الرمل ” ، ثمة كتاب لانهائي يكاد يجعل كل من يمتلكه مجنونا ثم إن هذا الأخير سرعان ما يفقده في المكتبة الوطنية ، لكنها القصة ذاتها ، فكرة شيء ثمين يتبدى في الأخير مرعبا ، شيئا يشبه الهبة لكنه في الحقيقة هو عقوبة ، تنكيل . يتعلق الأمر فعلا بنفس القصة . ” كتاب الرمل ” هو ال”زهير ” هو … أخيرا . إنها روايات مختلفة لنفس القصة المقنّعة بشكل مخيف . ” 7

عن الطفولة ، عن الشباب

” ابتداء من السنة الرابعة أو الخامسة يصبح الأطفال ساحرين . سوف أروي لك طرفة رويتها لمرات عديدة . لقد اعتدنا سرد أحلامنا في البيت . تحدثت إلى ابن أختي ، ميغيل Miguel) ( ، في قرية Androgué) ( التي توجد بجنوب بوينس آيرس . طلبت منه أن يحكي لي منامته هذا الصباح . فقال لي آنئذ ” تهت في الغابة لكننني رأيت منزلا أبيض خشبيا صغيرا ، فذهبت إلى هناك ، ثمة ممر يحيط بكل شيء وثمة درجات . صعدت ، طرقت الباب وأنت ، خرجت تحمل كتابا في يدك ” . ثم توقف وقال لي : ” قل ماذا كنت تفعل بذلك الكتاب ؟ ” قلت له حينئذ فقد ذهبت إلى البيت بحثا عن هذا الكتاب ثم استعاد قصته دون أن يدرك العمل الرائع : الالتباس بين الحلم وما يسمى بالواقع ، بالرغم من كونه حلما ، فهو حقيقة . (…)

      ” ما أنوي قوله للشباب الأرجنتيني في الوقت الراهن ] : إن المستقبل يتوقف عليهم . لن أستطيع فعل شيء ، فأنا رجل مسن ؛ لا أتصور أنه لا يزال لدي الكثير من الأيام والسنين في حياتي . لكن هم نعم ، والمستقبل يتوقف عليهم . فأن نقول ” عليهم ” فذلك أكثر غموضا ؛ الأصح متوقف على كل واحد منكم . يوجد الخلاص في كل واحد منكم ، ليس خلاص العالم ربما أيضا . لما لا ؟ لنكن مسؤولين غاية المسؤولية .

      ” [ إلى الشباب الذين يبدو أن الكتابة ] ، لهم أُقدّم النصيحة التي قدمها لي والدي منذ وقت طويل : أكتب لما أكون في حاجة حميمة إلى فعل ذلك ، وعدم التفكير في النشر . كان إميلي ديكانسون (Emily Dickinson) يعتقد أن النشر لم يكن جزءا جوهريا من قَدَر كاتب ما ، لكني أعتقد أنه لما يكتب المرء تحت الضغط الملح للأشياء التي تستوجب الكتابة ، فإن النتيجة لن تكون غير ذات أهمية كرها . إن فكرة الجلوس من أجل كتابة شيء ما تبدو لي فكرة خاطئة ؛ والرغبة في البحث عن موضوع هي أيضا . لابد من ترك الموضوعات هي التي تسعى في البحث عنا واكتشافنا كما ينبغي للمرء البحث في أن يكون جديرا بتلك الموضوعات . لكن أن يحدد المرء موضوعا ويقول في نفسه : ” سوف أكتب هذا المساء سونيتة ، يبدو لي ذلك سخيفا . ”

عن السياق السياسي

” يصعب إلى حد ما الإبقاء على الأمل ، لكني أسعى إلى حيازته ، بطبيعة الحال . إنها مهمتنا ، على ما أعتقد . فإذا ما سعيت وراءه ، فهو من نصيبي يكون . (…)

     ” ماذا كانت مشاعري أثناء المحاكمة العلنية ضد القادة السابقين ؟ بالتأكيد لم تكن مشاعر بغض ؛ لأنني لا أؤمن بالإرادة الحرة . أشعر بالشفقة . الشفقة على الضحايا والجلادين أيضا . إني أراهم كلهم ضائعين كذلك . لكن بدون كراهية . ففي هذا العمر ، لا قدرة لي على الكراهية . الاستياء ، نعم . فعلى سبيل المثال ، إني آسف تقريبا على كل ما كتبته ، لكن في الوقت الحاضر يتعذر ترميم ذلك . (…)6

      ” [ فيما يتعلق بالنفوذ العسكري أثناء تلك السنوات التعيسة من تاريخ الأرجنتين ] ، فإن ضميري مرتاح . لقد نشرت كتابا يضم حوارات قبل الانتخابات حيث قلت ما كنت أفكر فيه عن تعسف الحكومة العسكرية ، الأشخاص المعتقلين ، أحيانا يتعرضون للتعذيب وفي أغلب الأحيان يتم اغتيالهم ، عن أكثر الحروب غموضا … قلت كل هذا قبل انتخاب ألفونسان Alfonsin) ( . من الواضح أنني أتمتع بنوع من الحصانة ـ فأنا بورخيس ، معروف إلى حد ما ـ ، لكني تصورت أنه كان واجبي في الإفادة من تلك الحصانة كي أقول ما كان يخالج أفكاري عن الزمن الرديء للوطن . ثم أنا الذي كان يؤمن آنفا بأن الديموقراطية كانت ” مغالاة في علم الإحصاء ” ، أعرف في الوقت الحالي أن الديموقراطية الأرجنتينية جاءت لتكذيبي لحسن الحظ . (…)

      ” الديموقراطية تعتبر هشة بالأرجنتين لأن تاريخ أمريكا اللاتينية هو تاريخ فظيع ، تاريخ دكتاتوريين عسكريين . تصور فقط الأسماء ، التي كانوا يحملونها : راميريز Ramirez) ( ، الذي كان يطلق عليه ـ أشبه بقوة ، عظيم مقاطعة دو نترا ريوd’Entre Rios) ( ؛ أرتيغاArtigas) (، حامي الشعوب الحرة ؛ كيروغا Quiroga)  ( ، الذي كان يسمى المواطن العظيم … ومؤخرا ، بالقرب منا ، بيرون Peron) ( كان يسمى من قبل الجماهير العامل الأول ، وزوجته المرأة الشقراء . إضافة إلى ذلك ، كان يوجد بالباراغواي سولانو لوبيز Solano Lopez) ( ـ مسؤول عن حرب الباراغواي ، كارثة بكاملها ـ ، كان يُدعى العظيم ، عظيم مقاطعة دونترا ريو ، حامي الشعوب الحرة ، المرأة الشقراء أو العامل الأول . ” 7

أقبل وقت الكتابة ، ليس بخلدي هذا العيب عندما يتعلق الأمر بالتفكير . يحلو لي صياغة القصة القصيرة ثم بقدر الإمكانات ، محاولا أن أدخل الجزئيات الضرورية . أعرف المزيد عن الشخصيات أكثر مما أضعه بالفعل في كتاباتي .

دون بيل ـ حينما يتكلم الناس عن بورخيس ، فإنهم يُنوّهون دائما بعمق معرفتك ، بالآلاف وآلاف الكتب التي قرأتها … وفرة الكتابات التي قرأتها ، ما هو الكتاب الذي أثار إعجابك أكثر ؟

خورخي لويس بورخيس ـ طيب ، لم أقرأ على الدوام كتبا تستدعي المألوف وأقرؤها من أجل سعادتي . وهو ما يفسر رغبتي في إعادة قراءتها . سألتني إذا ما كان هناك كتاب معين . لطالما تم التساؤل ما الذي كان سيختاره روبانسون كروزوي في الميولات الأدبية ، كلا ؟ أفترض أنني أستطيع الإجابة بمهارة بأن هذا الكتاب سيشكل بالنسبة إلي الموسوعة البريطانية ، التي تشكل بمفردها مكتبة . ولكن ربما لو استطعت وضع اليد على دو كوينسي De Quincey) ( في أربعة عشر جزءا ؟ ـ لكن عندها أتساءل ما إذا كان سيسمح لي بهذا المقدار … ربما إن تاريخا للفلسفة كان سيكون اختيارا أكثر حكمة ، مثل [كتاب]  تاريخ الفلسفة الغربية لبرتران روسل ؛ فهو عمل في مجلد واحد يتضمن ثمان أو تسع مائة صفحة . نعم ، دعنا نقول أنه في هذا اليوم الذي أقضيه بكندا ، فعلى هذا العمل سيتوقف اختياري .

دون بيل ـ أود أن نتحدث الآن عن دور السكين في تخييلاتك وقصائدك الشعرية . فتبعا لأحد مترجميك إلى الإنجليزية ، تطاردك فكرة السكين ، الإفحساس بالسكين يقويك . ففي العديد من محكياتك ، مات  بطلك أو انتحر بواسطة السكين .

خورخي لويس بورخيس ـ طيب ، أفترض لأنه في بلدي ، كانت الأسلحة النارية شديدة الندرة حتى بعد بداية القرن ، بحيث أن الناس كانوا يتصورون المعارك دائما مثلما يحدث بين أناس مسلحين بالسكاكين . من ثم ، بطبيعة الحال ، فإن ذلك السلاح يضع شجاعة شخص ما موضع اختبار . يستوجب العراك بالأيدي البَسَالة . و ، بطبيعة الحال ، فإن أسلافي كانوا جنودا . على الرغم من أنني لا أعتقد أنهم كانوا يستعملون السكاكين ، فقد شاهدت سيوفا في البيت ثم إن تلك السيوف ، أفترض ، لا يمكن أن تكون لها وظيفة تزيينية فقط ، أليس كذلك ؟ لقد قاتل جدي أثناء اضطرابات في الحدود مع الأوراغواي ، والد جدي جابه الإسبانيين والبرازيليين ؛ فأنا من أرومة عسكرية إذن .  ربما إن ذلك يفسر الكثير من الأشياء في كتاباتي . أعتقد أنني كنت سأكون جنديا تافها جدا ، لكنني لطالما شعرت بنوع من الندم بخصوص الحياة العسكرية ؛ فهذا هو ما يجعلني تحديدا أعشق الشعر الملحمي . علاوة على ذلك فلما كان علي أن أسوق لك استشهادا ملحميا لكيبلينغ حول نساء النورفيجيين من عهد قريب . أشعر أنني دائما كما لو أنني مررت إلى جانب جزء من حياتي وكان علي أن أحلم حياتي بين الكتب . طبعا أنا غير منصف إلى حد كبير تجاه الكتب لأنها قبل كل شيء تعتبر واقعية تماما ، إن لم تكن أكثر بكثير ، من السكاكين والسيوف .

دون بيل ـ إذا سمحت ، نغير الموضوع و ..

خورخي لويس بورخيس ـ نعم ، دعنا من صناعة السكاكين 

وعن لا أدرية حصيفة

دون بيل ـ ثم نتكلم عن استحواذ آخر من استحواذاتك ، التفاعل بين الزمن والفضاء : لنسمي ذلك سحرا . هل تعتبر نفسك نصيرا للفوطبيعي ؟

خورخي لويس بورخيس ـ كنت أود الإجابة عن السؤال بالإيجاب ، لكنني لست متيقنا من ذلك تماما . كما قلت ذلك لصديقي م . ألفاريز (M. Alvarez) 5 ، بالنسبة لسؤال الحياة بعد الموت وعن الخلود ، عن الحياة في أجسام أخرى أو أرواح أخرى ، إنني تماما مثلما كان سبينسر قادر على المعرفة لكنني أرغب في الحفاظ على الذهن منفتحا . لذلك فلو سألتني ما إذا لو كنت أؤمن بحياة في العالم الآخر أو لا ، إذا ما كنت أؤمن بالإله أو لا ، فلا أملك إلا أن أجيب بأن كل شيء ممكن . إن ذلك ليس مستبعدا إذن . على أي حال ، أعتقد أنه من الغريب أنني أعيش بداخل جسدي ، وبعيني أستطيع مشاهدتك ، أن لغة بشرية ثم إن فمي يتيحان لي الحديث إليك ؛ لذلك ، فإذا كانت تلك الأشياء ممكنة ، فلماذا لا تكون أشياء أخرى خارقة ممكنة ؟ لماذا لا أكون خالدا ؟ لماذا لا أكون إلها ، كائنا لا نهائيا ؟ في النهاية ، فإن كل شيء ممكن ، بحيث أنه ليس بمقدور المرء إثبات أي شيء أو نفيه .

دون بيل ـ وأنت قدمت البرهان في محكيين من محكياتك وخصوصا ، ” فونيس أو الذاكرة ” و ” الألف ” . 

خورخي لويس بورخيس ـ  نعم ، ففي حالة فونيس ، أتاني ذلك أثناء فترة سهاد . في الإسبانية ، على الأقل كما يتم النطق بها بالأرجنتين ، ثمة عبارة جميلة . فبدلا من قول استيقظ ، نقول recordarse) ( ، تذكر نفسك . إنها عبارة صحيحة حرفيا . وهكذا ، مثلا ، لما صحوت هذا الصباح ، داهمني إحساس بأنني كنت أعيش في نوع من الفضاء اللامحدود وفجأة هو ذا أنا بورخيس ، أتواجد بكامبريدج ، وينبغي علي الذهاب إلى كندا ، وهكذا دواليك . لذلك كان علي تذكر وضعي فيما يتعلق بالعالم بإسره . ففي حالة فونيس ، فكرت في أن رجلا يرزح تحت قيود عدد كبير من الذكريات ما كان بإمكانه أن ينام . لذلك تصورت فونيس محتظرا افتراضيا تحت ثقل الذكريات . لو تذكرت ، لحظة موته ، بالرغم من أنه لا يزال في ريعان شبابه ، لديه كثير من الذكريات إلى درجة أنه لا يملك القدرة على صياغة أفكار عامة ومن ثم فإن تلك هي النهاية بالنسبة إليه .

دون بيل ـ وكان المحكي الآخر هو ” الألف ” …

خورخي لويس بورخيس ـ ففي ” الألف ” ، كانت لدي فكرتان في ذهني . الفكرة الأولى كانت عن الفكرة القديمة للعالم الصغير macrocosme) ( ، فكرة أن العالم بإسره ، الكون بأتمه ، العالم الخارجي ، يمكن ، طالما أننا نعرف ذلك ، أن يختزل أو يُفهم في حيز ضيق جدا ، بحيث أنه من الممكن ، مثلا ، أنه بداخل دائرة صغيرة متألقة في منزل كئيب لبوينس آيرس ، يمكن العثور على الكون بإسره ، وبداخل ألف أخرى وهكذا دواليك حتى اللانهاية . ثم خطرت لي فكرة أخرى : توهمت شخصا مُنح امتياز مشاهدة الكون والذي صمم على ألا يفيد من ذلك إلا من أجل كتابة قصيدة ، لا معنى لها . ثم إن تينك الحبكتين توجدان منتسجتين في المحكي .

دون بيل ـ أجد أنه من الغريب أن البعض من قصصك ظهر في مجلة (Mastery Magazine) لإليري كوين Ellery Queen) ( .

خورخي لويس بورخيس ـ أوه ، إني فخور بذلك . فقد حصلت على جائزة ثانية .

دون بيل ـ بطبيعة الحال ، لا يمكننا مقارنتك بميكي سبيلاين Mieckey Spillane) ، روس ماكدونالد (Ross Macdonald) أو داشيل هاميت (Dashell Hammett) ، ستتم مقارنتك على الأصح بشاسترتون Chesterton) ( ، بو poe) ( وكافكا .

خورخي لويس بورخيس ـ لا أعتقد أنه كان يمكنني كتابة رواية بوليسية معقدة جدا كما تعرف ، مع جثث مليئة بالدم ، حبكات جنسية ، حتى ولو كان ذلك من أجل إنقاذ حياتي … لكني أتساءل لو كنت سأوجد بدونهم لاسيما ، بدون دوكوينسي ، لقد قرأت أعماله ، بتاريخ 1916 أو 1917 ، ومنذ ذلك الوقت كان يبدو لي أنني لم أقم إلا بتقليده أو إعادة قراءته على طريقتي الجنوب أمريكية .

دون بيل ـ ضمن واحد من تخييلاتك ، تحكي قصة رجل حلم بتحوله إلى فراشة فتساءلت هل حقا أن رجلا يحلم أنه كان فراشة أو إذا ما كانت فراشة تحلم أنها تحولت إلى رجل ؟

خورخي لويس بورخيس ـ أود القول إنني اخترعت هذا . لكنني استعرته من المتصوف الصيني شوانغ تزو (Chuang Tzu) في عمل كنت قد اطلعت عليه سنة 1915 تحت عنوان شوانغ تزو ، متصوف ، أخلاقي ومصلح اجتماعي . أعتقد أن هذا يجعلنا ندرك إلى أي درجة نعيش حياتنا مثل حلم أكثر بكثير مما لم يقم شكسبير بفعله ، بتعبيره ” نحن مثل أشياء صيغت فيها الأحلام ” ـ إذ أن ثمة تصريح عام جدا . على أنه في هذه الحالة ، فإن الفراشة تستحضر تجاور الحلم والحياة ـ أتصور أن المثل غاية في الكمال .

دون بيل ـ أجد أن الطريقة التي تستشهد من خلالها بمصادرك مشوشة . أحيانا تكون أصيلة لكن غالبا فإنها تبدو مختلفة . يشعر القارئ بالضياع إذ إنه لا يدري ماذا يصدق .

خورخي لويس بورخيس ـ سوف أشرح لك .أعطيك كلمة شرف بأنني سأتصرف جيدا أثناء وبعد هذا الحوار . سوف لن أبتكر مؤلفين افتراضيين بعد ، سأجيز لنفسي أي استشهاد خاطئ ؛ سأبذل ما في وسعي كي أبجل هذا الهدف النبيل الذي سألتزم به .

دون بيل ـ بورخيس ، ها أنت تعيش بأمريكا الشمالية منذ سنة كما تشغل كرسي إليوت بورتون بهارفارد . كيف كان رد فعلك تجاه التيارات التي تنشط مجتمع أمريكا الشمالية ؟

خورخي لويس بورخيس ـ بالرغم من نوع من الحنين إلى الوطن وشعور معين من الكآبة المبهمة ، فإن كل الأشياء تعتبر ، بطبيعة الحال ، محتومة ، اتسع إدراكي كثيرا بالنسبة لما كنت أدركه قبل المجيء إلى أمريكا . لقد حدث أول اتصال لي بهذه القارة حينما كنت طفلا صغيرا مع رواية مارك توين Huckleberry Finn) ( . تلك كانت أول صورة ملموسة لي عن أمريكا ، مع Huckleberry Finn) ( ، المسيسيبي ، الطوف ، جيم Jim) ( الصغير وهكذا دواليك . ثم بريت هارث Bret Harte) ( وبو Poe) ( . بعد ذلك مباشرة ، قرأت ، شيء غريب ، الكتاب الأول للتاريخ الذي توفقت في قراءته كاملا ، والذي لم أكن أقل فخرا به ، وكتاب Conspiracy of Pontiac) ( لباركمان Parkman) ( . لذلك فقد خالجتني على الدوام مشاعر خيرة تجاه أمريكا . لقد كانت على الجانب الصحيح في الحربين العالميتين والآن ، إلى حد ما ، فكما لو إني عدت إلى أمريكا . علاوة على ذلك ، أجد أن كل شيء جذاب في هذه القارة . أجد أن الناس ودودون جدا . البارحة ، مثلا ، ما أن ألقيت محاضرتي الرابعة بجامعة هارفارد ، حتى لاقيت ترحيبا كما لم ألقاه في بلدي ولا في أي مكان من العالم . أعتقد أن هذه القارة هي قارة مفعمة بالأمل . بطبيعة الحال ، كنا في بلدي فريسة لنوع من الإحباط . فقد عشنا في ظل الديكتاتورية . أتمنى أن تتعافى البلاد لأنني أرجنتيني صالح وأثق في مستقبل بلدي . في ذات الوقت ، حينما يأتي المرء إلى هنا ، يشعر بأنه يحل في عالم يملؤه كثير من الأمل . يحتل بلدي بالنسبة لي أهمية كبرى . لن أغتابه . أقول لك ببساطة الحقيقة إذ إني أؤمن بأنني أصرح لك بالحقيقة .

دون بيل ـ دون الرغبة في جرح إحساسك ، هل قررت كيف ستكون قبريتك ؟

خورخي لويس بورخيس ـ يمكنك منحي بضع سنوات للتفكير في الأمر … ولكن ربما يكون بالإمكان أن يقرأ المرء هناك : ” هنا يرقد فلان الفلاني ، الذي لم يكن الموت بالنسبة إليه أقل عسرا ولا أقل إذهالا من الحياة ” . أقول لك هذا تحت وحي اللحظة . فبالرغم من أنني ، ربما ، لن أجد الموت أكثر صعوبة للفهم ولا أشد عجبا من ذلك . من المحتمل أنني ساصطدم ببساطة بجدار ، لا… ؟

ــ

مصدر النص :

مجلة Nuit Blanche magazine littéraire  عدد 38 ، سنة 1989 الصفحات : 34 ـ 41 . انظر موقع : www.erudit.org/fr/revues

أجرى الحوار دون بيل Don Bell) ( وتمت ترجمة الحوار عن الإنجليزية بواسطة لورين بوليو Loraine Pouliot) (

1 ـ عن قصيدة ” بورخيس وأنا ” ( ترجمة إبارا Ibarra) ( .

2 ـ ثمة نظرية مفادها أن الأكاديمية السويدية عبرت عن امتعاضها من بورخيس لأنه لم يتخذ موقفا بالمقدار الكافي من الحزم ضد الدكتاتور الأرجنتيني القديم خوان بيرون Juan Peron) ( ؛ ودفاعا عن بورخيس ، يمكن القول أنه كان قبل كل شيء أديبا ، لا يهتم بالسياسة أساسا ، كما أن محكياته ، بتوسيعها لآفاقنا ، كانت في حد ذاتها اتخاذا لمواقف لصالح حرية الفكر والحرية بعد كل ذلك .

3 ـ في المجموعات الأخرى ( ثمة تقاطعات ) نعثر على متاهات ، تخييلات ، الألف ونصوص أخرى ، بورخيس : القارئ ؛ يتضمن هذا النص الأخير ، في النهاية ، جزءا معلقا عليه ، آسر تماما ، يصف خلفية كل قطعة مع إرجاع وتلميحات للمحكيات الأخرى وقصائد ذوات ثيمات مماثلة ؛ ومع ذلك فإن إحدى المحكيات الجيدة ، مثل ” شكل السيف ” التي نشرت في متاهات ، ليست مدرجة في بورخيس : القارئ .

4 ـ ملاحظة المترجم : ترجمة حرة .

5 ـ القنصل الأرجنتيني في ذلك العهد . لن نذكر من عمل بورخيس الضخم إلا بعض العناوين : تخييلات ، غاليمار ، 1985 ؛ الألف ، غاليمار ، 1977 ؛ كتاب الرمل ؛ غاليمار، 1978 ( فوليو ، 1983 ) ؛ Chroniques de BustosDomecq) ( ، دونويل ، 1980 ( مع أدولفو بيوكساريس ) ؛ ست قضايا من أجل دون إزيدرو بارودي ، دونويل ، 1980 ؛ كتاب المخلوقات العجيبة ،  bourgois,1981  ، مع مارغاريتا غيريرو Marguerita Guerrero) ( ؛ المؤلف ونصوص أخرى ، غاليمار 1982 ؛ إيفاريستو كارّييغو (Evaristo carriego) سومي ، 1984 ؛ التاريخ الكوني للخزي : تاريخ الأبدية ، بورغوى ، 1984 ؛ حكايات جديدة لبوستوس دوميسك Bustos Domecq) ( ، لافون ، 1984 ( بالاشترا مع أدولفو بيوكساريس ) محاضرات ، غاليمار ، 1985 .

6 ـ حوار من إنجاز خوسيه أنطونيو سيدرون (Antonio Cedron) أثناء لقاء بورخيس مع الطلبة وأساتذة الجامعة الوطنية لقرطبة (الأرجنتين ) في شتاء 1985 ، قبل بضعة أشهر من موته . [مجلة] Plural) ( عدد 208 ، يناير 1989 .   ترجم من الإسبانية من قبل سيسيليا بونتييه Cecilia Ponte) ( .

7 ـ أجرى الحوار إدواردو جيوردانو (Eduaro giordano) عند بورخيس ببوينس آيرس عام 1984 . مجلة Plural) ، عدد 185 ، فبراير 1987 ترجمه عن الإسبانية سسيليا بونتييه 

شارك الموضوع :

إقرأ أيضًا