طقاطيق محرمة

المصيبة والعزاء | عن الشجن في الغناء العراقي

موسيقى

العثمانيون سبقوا الاسرائيليين في اللعب بتاريخ القدس

حيوات اسطنبول وأحلامها في القرن السادس عشر

ملصقات

أحمد العجمي... في جنوح الشعر

جنى الحسن... البوكر وموت الرواية

ثقافة

أحدث المواضيع

كافكا... التشظي بوصفه حالة مركزية

1:07 ص اضف تعليق

 كولن لوريل ترجمة: د. سعد البازعي

الشرق الاوسط


رواية «القلعة»، الرواية الثالثة والأخيرة، لفرانتز كافكا تنتهي عند منتصف جملة. لكن حين دخل النص إلى العالم لأول مرة كان قد حرر ليكون مكتملاً. ماكس برود، صديق كافكا ومنفذ وصيته الأدبية، الذي هيأ الطبعة الأصلية عام 1926، ذكر لاحقاً أن «هدفه كان أن يقدم في شكل قابل للقراءة عملاً غير تقليدي ومقلقاً، عملأً لم ينتهِ تماماً: لذا بذلت كل المحاولات لتفادي كل ما يمكن أن يبرز كونه عملاً متشظياً». لكي ينجز هذه التعمية لشكل رواية لم تكتمل، قام برود باجتزاء خمس النص. في النهاية وجد أن ما اختاره كان أفضل، فقام في الطبعة الثانية باستعادة معظم ما اجتزأه - لكن في تلك الفترة كان نجاحه في اجتذاب الاهتمام بعمل كافكا قد أدى إلى وضعه على القائمة النازية «للأعمال المضرة وغير المرغوب بها». أدى ذلك إلى منع الطبعة الأكثر وفاء من الوصول إلى القراء الألمان إلى أن سقط الرايخ الثالث. في تلك الأثناء كان قراء كافكا قد ازدادوا في الخارج نتيجة لتراجمه إلى الإنجليزية عام 1930 التي قام بها ويلا وإدوين ميور، اللذان أسسا ترجمتهما للقلعة على طبعة برود الأصلية - مقدمين الرواية على أنها عمل مكتمل بدلاً من أن يكون متشظياً.

الحالة التي ترك كافكا رواية «القلعة» عليها تمثل الوضع السائد في أعماله كلها. لقد نشر أثناء حياته قليلاً من القصص في مجلات ودفع بمجموعة سردية واحدة، مهيئاً أخرى لم تظهر إلا بعد وفاته. لكنه ترك النسبة الكبرى من أعماله ناقصة - بملاحظة، كما هو مشهور للأسف، يطلب فيها من برود إحراق كل كلمة. نظر برود إلى الروايات الأخرى التي رفض إتلافها بالطريقة نفسها التي نظر بها إلى «القلعة»، حاذفاً فصولاً غير مكتملة من «المحاكمة» ومعدلاً نهاية رواية كافكا الأولى «الرجل الذي اختفى» (التي عدل اسمها) إلى «أميركا». أما بالنسبة للكم الكبير من القصص والعبارات والأقوال المأثورة، فقد وضع برود عناوين لما يفتقر إلى ذلك منها وأصلح النهايات الملغاة.

على مدى العقود التالية، اعترضت أجيال من الباحثين والمترجمين على النسخة المصقولة من كافكا كما بناها برود. اتضحت حالة التشظي بوصفها مركزية في أعمال كافكا منذ عام 1949، حين لاحظ المنظّر موريس بلانشو في كتابه «عمل النار»، الذي ترجمته شارلوت مانديل، أن «قصص كافكا الرئيسية شظايا، وأن العمل بكليته متشظٍ». لكن في العالم الأدبي الأنغلوفوني، طورت هذه المراجعة في أقصى دلالاتها على مدى العشرين عاماً الأخيرة تقريباً: كما في ترجمة مارك هارمان لـ«القلعة» (1998) وترجمة بريون متشل لـ«المحاكمة» (1999). الشاعر والمترجم مايكل هوفمان انضم إلى الداعين إلى كافكا غير مصقول، في النسخة التي قدمها من رواية كافكا الأولى، إذا أخذنا في الاعتبار عنوانها المعدل «أميركا: الرجل الذي اختفى» (2017)؛ والآن «الكتابات المفقودة».

هذا المجلد الجديد يجمع 74 نصاً قصيراً - بعضها أطول من صفحتين، وكثير منها لم يكتمل - اعتنى بها راينر ستاش، مؤلف السيرة ثلاثية الأجزاء لكافكا. في مقدمته يجادل ستاش أنه على الرغم من أن «السمة الهشة والمتشظية» لأعمال كافكا تركت أثراً بالغاً، بل «جعلتنا ننظر إلى الشظية الأدبية بجدية»، فإن أكثر نصوص الكاتب تشظياً ظلت مختفية عن الأنظار: يندر أن تُترجم، غالباً غير مطبوعة، بالكاد تقرأ، وهكذا، حتى لو لم تغب تماماً، فإنها «مفقودة» أساساً. قول ستاش إننا ندين لكافكا باهتمامنا بالشظية الأدبية كما هي يتضمن بعض المبالغة التي لا تخلو من التنميق؛ قبل ولادة كافكا بمائة عام، لاحظ الفيلسوف فريدرك شليغل ساخراً أن «كثيراً من أعمال القدماء صارت شظايا. كثير من أعمال المحدثين تصير شظايا بمجرد كتابتها». لكن من المؤكد أن كافكا كان أساسياً لاكتشاف الحداثيين وما بعد الحداثيين لقيمة العمل غير المكتمل. بالنظر إلى الغموض المؤسف لكثير من نصوصه الأكثر تشظياً، تكتسب مهمة ستاش وهوفمان أهميتها: دفع مزيج من هذه النصوص، التي تؤلف ما يسميه ستاش «القاعدة العملاقة» لـ«جبل الجليد» المتمثل بأعمال كافكا، إلى السطح.

مع أن ستاش يعترف بتنازلات معينة لبرود - فإنه يكتب قائلاً: «تسعى المختارات قبل أي شيء إلى أن تكون سهلة المتناول»، إذ تقدم «نصوصاً سهلة المقاربة والقراءة إلى حد بعيد» - كتاب «الكتابات المفقودة» يتجنب منتشياً أي بنية تنظيمية يمكن أن توجهنا، من العناوين إلى التقسيمات إلى صفحة المحتويات. إلى جانب المختارات والخاتمة، هناك فقط كشاف للأسطر الأولى. هذه المقاربة االتي تقف عند الحد الأدنى تغرق القراء مباشرة في عالم كافكا. الصفحة الأولى نفسها تثبتنا في أحد فخاخ كافكا الشهيرة: «أستلقي على الأرض أسفل جدار، أتلوى من الألم، أحاول أن أختبئ في جحر من الأرض الرطبة».

يمكننا تقسيم النصوص المجموعة في «الكتابات المفقودة» إلى مجوهرات وكِسَر - الأولى تبدو مكتملة بصورة مفهومة، الأخيرة واضحة الانكسار - في كل واحدة نوع خاص من الغموض. ضمن ذلك التقسيم، يأتي النص الأول جوهرة؛ الجمل التي تؤلف بقية الحكاية تقدم صورة مختصرة للمشهد، فارشة الألم الذي تتضمنه البداية. ها هو الراوي بوصفه ضحية، عربة مجهزة بسائق وكلاب تشعر بالملل مما تم اصطياده، وصياد «ينخز بجشع عجول (الراوي)». ومما يثير الاستغراب أكثر تعبير وحشي عن رغبة كبتت: «عطِشٌ، بفم مفتوح، تنفست في سحب من الغبار».

هذه الأمثولة الافتتاحية حول العجز المحكوم عليه تسير بتمتمة إلى الأمثولة التالية - جوهرة أخرى تتغير فيها الظروف والأسلوب تماماً، لكن الدينامية الأساسية للمفترس والضحية لا تتغير. هنا يضع الراوي نفسه في موضع استقواء قاسٍ تحتله حاشية الصياد في القطعة الأولى. يخاطب الواقعين في المصيدة:

«إذن تريدون أن تتركوني؟ حسناً، إن القرارات لا تختلف. أين ستذهبون؟ أين هو البعيد عني؟ القمر؟ حتى ذاك ليس بعيداً بما يكفي، ولن تصلوا إلى هناك. لِمَ الضجيج إذن؟ أليس من الأجدى أن تجلسوا في زاوية ما بهدوء؟ ألن يكون ذلك أفضل؟ زاوية دافئة ومظلمة؟ هل تسمعون؟ تتحسسون الباب. حسناً، أين هو؟ ما أتذكره هو أن هذه الغرفة بلا باب».

يتكرر غياب المخارج عبر نصوص المجموعة، مثلما تتكرر الممرات التي يستحيل المرور عبرها، ولا يزيد حضور الباب الذي لا جدوى منه سوى زيادة التوتر في أجواء المصيدة. في بقايا نص تالٍ يعود قطيع مشتت من الوحوش إلى موطنه بعد سرقة شربة من الماء من بركة ليتعقبهم من يعاقبهم بسياط فيدخلون «قاعة الأسلاف حيث الباب مغلق وبقينا وحدنا». في آخَر، وهو جوهرة أيضاً، يذرع الراوي، دون سبب واضح، «قاعة حجمها كبير كالمعتاد ومضاءة بالضوء الكهربائي». يقول: «كان للغرفة أبواب، لكن إذا فتحتَ أحدها وجدت نفسك في مواجهة جدار مظلم من الصخر الأصم لا يبعد عن الحافة بأكثر من عرض اليد، ويمتد إلى الأعلى على الجانبين على امتداد النظر. لم يكن ثمة مخرج هناك».

الجملة الخانقة نفسها «لا مخرج» - وهي جملة متشظية كافكاوية بحد ذاتها - تظهر في نص آخر، حوار بين محاور وشمبانزي اسمه «رد بيتر» سبق أن تم اصطياده من غابته على يد بشر وتعلم في النهاية كيف يتصرف كالبشر. الشمبانزي هو أيضاً الراوي لقصة «تقرير لأكاديمية»، إحدى القصص القليلة التي أنهاها كافكا ونشرها أثناء حياته. في القصة بصورتها المكتملة يعبّر «رد بيتر» عن رغبته في «مخرج» ويكرس بعض الوقت للبحث عن معنى لجملة: «أخشى أنك لا تفهم تماماً ما أعنيه حين أقول (مخرج)»، يقول هذا لمستمعيه في ترجمة ويلا وإدوين ميور.

ويضيف: «إنني أستخدم العبارة في معناها الأكمل والأكثر شيوعاً. إنني أتعمد عدم استخدام كلمة (حرية). لا أقصد الشعور الفضائي بالحرية من كل الجوانب» - تركنا نستنتج أي لون من الحرية المقيدة نسبياً يبحث عنه ليكون البديل. في النسخة المتضمنة في «الكتابات مفقودة»، يروي «رد بيتر» وهو في حالة حزن قصة اصطياده، وكيف أنه قبل ذلك «لم يعرف ما يعنيه ذلك: ألا يكون هناك مخرج». ويمضي شارحاً أنه كان محتجزاً ليس في «قفص ذي أربعة جوانب بقضبان»؛ بدلاً من ذلك «كانت هناك ثلاثة جدران، وكانت مربوطة بصندوق، وفي الصندوق الجدار الرابع». كل شيء يعتمد، كما يبدو، على هذا الجدار الرابع. في الرؤية الكونية لكافكا، ثمة افتراض مسبق للثلاثة جدران. المأساة المرعبة هي الطريقة التي يشكل بها وجودُ الإنسان الحاجزَ الرابع.

شبح هذا الجدار الرابع الغائب يطارد «الكتابات المفقودة». يعود مرة أخرى في نص ناقص آخر يصف فيه الراوي الفضاء حيث ألقي عليه القبض. يخبرنا في السطر الأول أنه «لم يكن زنزانة، لأن الجدار الرابع كان مفتوحاً تماماً». هنا يعبر عن العائق الذاتي ليس من خلال المأزق الجسدي الفعلي للشخصية، وإنما من خلال تفسيره له: انفتاح الجدار الرابع ليس إلا لإبراز أنه لا يحاول حتى تحرير نفسه.

بل إن الراوي يقول إنه من الأفضل أن عريه يمنعه من تحويل ملابسه إلى حبل للهروب؛ بالنظر إلى «النتائج الكارثية» المحتملة، من «الأفضل ألا يكون لديه شيء وألا يفعل شيئاً».

في مواضع أخرى يجد كافكا طرقاً أخرى لتمثيل بنية الهزيمة الذاتية. في واحد من النصوص الناقصة، يتحدث الراوي عن عجزه بشكل غامض عن البقاء مع فتاة يحبها. يدعي في البدء «أنه كما لو أنها كانت محاطة بحلقة من الرجال المسلحين الذين يشهرون رماحهم في كل اتجاه»، لكنه يراجع روايته فيما بعد: «أنا أيضاً كنت محاطاً برجال مسلحين، مع أنهم وجهوا رماحهم إلى الداخل، باتجاهي. حين اقتربت من الفتاة، أمسكتني مباشرة رماح رجالي ولم أستطع أن أمضي قدماً».

في المجمل، لا تقدم «كتابات مفقودة» كافكا بصورة جديدة أو تعمق فهمنا له بقدر ما تقدم تعبيراً مكثفاً عن ذات الدينامية، والموتيفات، والانشغالات التي تحتل أعماله الأطول والأكثر مألوفية... إن من المدهش كيف أن قراءة الأشكال المكسّرة، واحدة تلو الأخرى والمجموعة هنا تترك شعوراً لا يختلف، مثلاً، عن «التحول» أو «المحاكمة»، التي على الرغم من وحدتها النسبية وديناميتها السردية، تتبع البنية نفسها كما في التراكم الذي تتألف منه «الكتابات المفقودة»: في كل واحدة مسيرة قصصية لمآزق، تتابع لطموحات محبطة، فظيعة ورائعة.

إن من المناسب، وإن تم تجاهله بدبلوماسية في الختام، أن هذه المجموعة هي نفسها مشروع محبط. كانت «الكتابات المفقودة» في الأصل مجموعة موثقة على أنها نصوص لم تترجم إلى الإنجليزية من قبل، وهي دعوى جرت مراجعتها حين ظهرت نسخ أخرى في مجلدات لم تكن مطبوعة. الآن تؤكد النسخة على الغلاف الورقي أن اثنين من السبعة وأربعين نصاً لم يسبق أن نشرا بالإنجليزية. كانت النقلة دون شك مخيبة للناشر، وربما للقراء الباحثين عن الجديد والعظيم - لكن على المخلصين لكافكا أن يدركوا جاذبية الآمال الخائبة والادعاءات المتواضعة.

* مراجعة للكتابات المفقودة لفرانز كافكا، ترجمة مايكل هوفمان

في «ذا بافلر» (أكتوبر، 2020)

حوار مع خورخي لويس بورخيس: ألعاب مع مرور الوقت ومع اللانهاية

حوار مع خورخي لويس بورخيس: ألعاب مع مرور الوقت ومع اللانهاية

8:25 ص اضف تعليق


أجرى الحوار: دون بيل

ترجمة: الحسن علاج

تقدمه لنا الصور السلبية الأخيرة التي التقطت له مثل شيخ جدير بالإجلال ، ذي نظرة غائبة ، ضاغطا على نُفيحة عصا بيضاء . عمليّا عبر خورخي لويس بورخيس عصرنا واسما إياه بعمق وبأصالة صوته الجديد . هو أب لأدب أمريكا الجنوبية ، فقد منح صوتا لقارة . على غرار العمالقة مثل بروست وكافكا ، نجح في التأثير حتى في الكُتّاب الذين كانوا يتجنبون قراءته . هذا هو ما يجعل عمله إلى حد ما يصبو المرء إلى إعادة قراءته . من يجرؤ فعلا على الاعتراف بعدم معرفته بكتاب تخييلاتFictions) ( ؟ ومع ذلك … فمن أجل الاحتفاء بذكرى من غادرنا سنة 1986 ، تقدم مجلة Nuit blanche) ( لقاءات ثلاثة لا تزال غير منشورة بالفرنسية . فرصة مفاجئة لإعادة اكتشاف أمين مكتبة بابل .

” منذ سنوات ، وأنا أحاول التخلص منه وقد مررت بأساطير الضواحي في  الألعاب مع مرور الزمن ومع اللانهاية … 1 ”

فارق خورخي لويس بورخيس الحياة بجنيف عن سن تناهز السادسة والثمانين . لاشك أنه كان الكاتب اللاتيني الأمريكي الأكثر تأثيرا للأزمنة الحديثة . مرشح أبدي لنيل جائزة نوبل للأدب التي كانت ، شيء مدهش 2، تنفلت منه باستمرار ، ذاع صيت بورخيس بفضل قصصه القصيرة المشوشة ، التي كان يسميها ficciones) ( ، كما هو الحال بالنسبة لخرافاته ، أمثولاته ، مقالاته وقصائده الشعرية .

      قبل حوالي عشرين عاما ، أقام فترة قصيرة بأمريكا الشمالية ، بجامعة هارفارد ، حيث شغل كرسي إليوت نورتون Elliot Norton) ( في أثناء تلك الفترة ، ذهب إلى مونتريال كي يلقي محاضرة حول الأدب الإنجليزي والحلم بجامعة السيد جورج وليامز Sir Georges – Williams) ( ( تحمل في الوقت الراهن اسم كونكوردياConcordia) ( ) . وبفضل المساعي الحميدة التي بذلها قنصل الأرجنتين في ذلك العهد ، م . هوغو ألفاريث M.Hugo Alvarez) ( ، كان لدي الشرف لقاء بورخيس وأن أحظى منه بلقاء طويل لصالح برنامج راديو Tuesday Night CBC) ( . وكانت النتيجة وهي فيلم وثائقي من خمسين دقيقة تحت عنوان بورخيس وأنا بحسب قصيدة بورخيس ذائعت الصيت التي أخذت منها السطور أعلاه..

       عندما كنت سألتقي بورخيس في 29 فبراير 1968 ، كان فترتئذ قد أصيب فعلا بالعمى ، على الرغم من ذلك ، فقد  كان بإمكانه إدراك ، لكن بصعوبة كبيرة ، ظلال اللون الأصفر ، الضوء والظلال . وبعد مرور بضعة سنوات سوف يُفتقد ذلك البريق بالنسبة إليه . ” إنه بيت شعري لفرلين لم أعد أتذكره بعد / ثمة مرآة عكستني للمرة الأخيرة … ” كتب بورخيس في قصيدته التي لا تنسى ” حدود ” ، مستحضرا ألم شيخوخته وهو أعمى .

    كان أمامي رجل صغير هزيل ، متذثرا ببذلة رمادية تمنحه في الوقت نفسه مظهرا متقنا ومحافظا ، وهو ما كان يمكن للمرء توقعه تماما  من توقعه من علاّمة لاتيني أمريكي ذي جذور أوروبية . لقد تبدى لي عن إنسان طبيعي لطيف ومحبب إلى النفس . ( أتمنى في الوقت الراهن تدوين مزيد من التفاصيل حول إطار اللقاء أو حول مظهره الخارجي ـ أراه مرة أخرى مستندا على عصاه ، مائلا إلى الأمام في متكإه . على أنه مع بورخيس ، فإن الكلمات ، إيقاع الكلام ، الأفكار تتجاوز السياقات مهما كانت . )

      حضرت إلى المقابلة على أكمل الاستعداد بمعية مسجل صوت مستأجر من نوع Uher) ( مع حمالته والعديد من الأوراق ترصّ لائحة أسئلة بكاملها ضُربت على الآلة الكاتبة بعناية . لقد قرأت وأعدت قراءة كل تخييل fiction) ( ، قصيدة شعرية ومقالة في أنطولوجيا شخصية ، يرجح أنه العمل الأكثر نجاحا لبورخيس ، بهجة حقيقية بالنسبة للقارئ الذي يرغب في الاستغراق بسرعة في العمل 3 . ففيه يتم العثور على محكياته العظمى : ” الموت والبوصلة ” ، ” الجنوب ” ، ” فونيس أو الذاكرة ” ، ” الألف ” ، ” الأنقاض الدائرية  … ” وقصائده الشعرية التي تستحق الذكر ، ” بورخيس وأنا ” ، ” حدود ” ، ” النمر الآخر ” .

      لا أزال أتذكر حرارة قبضة يده ، كما لو أنه فشل في رؤيتي ، كان يرغب في التعرف عليّ من خلال مسام الجلد من أجل اكتشاف الكائن الذي كان يتواجد أمامه . بدد استقباله من حالتي العصبية : بدا مهتما بكل سؤال وفضوليا عن كل شيء ، لا يظهر أي غرور أو ادعاء . في تلك الأثناء ، لم يكن بورخيس شهيرا في العالم الناطق بالإنجليزية ( كانت شهرته في بدايتها ، تحت تأثير كُتَّاب مثل أبدايك Updike) (   ، بارت ونابوكوف الذين قام باكتشافهم ؛ في حين أنه بالنسبة للجمهور الإسباني ، كان بالفعل عملاقا أدبيا ). ومع ذلك فقد كان لديه بالفعل متابعون وكنت أشعر أنني أنتمي إلى النخبة المحظوظة التي فتنت صدفة بقراءة ما ، كما لو أنني كنت عضوا في مجتمع سري ـ رعناء هي بعض أسئلتي ، كنت أعتبر ـ وأعتبر دائما ـ أن الأمر كان يتعلق بامتياز خاص ، إن لم يكن هبة من ربّات الفن الساهرات على قدري كوني ، تمكنت من لقاء وتسجيل هذا الشيخ الساحر ، هذا المعلم الحكواتي الذي كان يعرف كيف يؤثر في أعماقنا بفضل تعاطفه مع التباساتنا الخاصة . كانت بذهني ثيمات العمل الكلية الحضور والعاكسة ومعالجتها من قبل ذلك المؤلف النادر : سخرية على سخرية ، مفارقات ، مفاهيم زمكانية وهويات كاسرة للأشعة ؛ التباس شخصياته ( الذين هم الذين  ؟ ـ انظر ، على سبيل المثال ، ” شكل السيف ” ) ؛ لقاءاته مع قُرناء ، الغوليم golem) ( ، الزهير Zahir) ( وموسوعته عن الحيوانات . ففي محكياته ، كما هو معلوم ، الاستشهادات بالنصوص القديمة يمكن أن تكون ابتكارات بورخيسية خالصة . وإليه ينسب التأكيد بأن كافكا أثر حتى في الكُتّاب الذين سبقوه . أمامي إذن الشخصية بورخيس ، نزوي ، غريب الأطوار ، مسلّ ، كما أنه مرتاح بالمكتبة الوطنية لبوينس آيرس مسقط الرأس ، ( من سخرية الأقدار أنه شغل مديرا لها عدة سنوات في حين أنه لم يكن يملك القدرة على قراءة أي كتاب بالنظر إلى سوء بصره ) ، كما كان في الأزقة القديمة لجنيف التي عبرها طارقا البلاط بعصاه ( ” مدينة من مدني /

كان يفترض أن أموت /

جنيف / حيث أتانيَ الكشفُ ؟ “4 ، يتساءل في واحدة من قصائده الشعرية الأخيرة ) أو لم يكن يتمتع بالراحة ، في الواقع ، فهو يتلفظ من أجلي بصبر وأناة في غرفة بفندق بمونريال في 29 فبراير 1968 .

      ها نحن أولاء . بكرة 1 ، جانب 1 . استخدموا المسجل ، صالحpor)  favor) ، على شرف السيد بورخيس الذي لن يمر للتو ـ دون بيل (Don Bell) ، مونريال ، 1968 ـ

أن تكون كاتبا أرجنتينيا أو لا تكون

دون بيل ـ بورخيس ، لو قمت بتهييء برنامج إذاعي بخصوصك وترغب بداية بتقديم وصف لشخصك وأيضا لعملك ، ماذا كنت ستقول ؟

خورخي لويس بورخيس ـ طيب ، أفترض أنني أرى نفسي مثل كاتب ، ومثل أستاذ للأدب الإنجليزي و ـ اسمح لي كي أبوح لك بسر ـ كطالب للإنجليزية القديمة ، اللغة الأنغلوساكسونية . وأحيانا ، أتصور نفسي أشبه برجل في حيرة شديدة لكن ، في الوقت الحالي ، لأنني ربما أتواجد في كندا ، أتصورني مثل رجل سعيد ومفعم بالأمل في المستقبل .

دون بيل ـ تولي أهمية كبرى ، في كتاباتك ، لجذورالأبطال . أفكر بشكل خاص في يُهانس دالمن (Johannes Dahlmann) ، بطل محكي ” الجنوب ” . فقد كان نصف ألماني ، نصف أرجنتيني و ، الأهم من ذلك ، أن أحداث القصة تدور في عام 1939 . هل حدث أن قمت بتحليل أهمية أصولك في تطور روحك المبدعة ؟

خورخي لويس بورخيس ـ  حسنا ، أنا من أصل إسباني ، برتغالي و ، لا ننسى ، الأصل الإنجليزي . لكني أحب أن أصدق أنه لا ينبغي توفر مزيد من الدم الإنجليزي كي يكون ذلك ضروريا . لما كنت طفلا ، كنت أراني كأرجنتيني كِفاية . ثمة شيء يصعب تقديم تعريف له ، على أنني أعرف ومواطنيّ الأرجنتينيون يعرفون أيضا ماذا يعني هذا . في الوقت الراهن ومع مرور الوقت ، يُقال أنني أعود إلى الوراء ، وأنني أفكر في أسلافي الأنجلوساكسونيين الذين كانوا يتحدّرون من أصول نورتومبيرلندية Nurthumberland) ( . ولا أجد هناك أي تناقض في ذلك . أنا لا أتصور نفسي من دم إنجليزي ، وفي اللحظة الموالية باعتباري من أصل إسباني .  ما يهم حقيقة ، هو أن المرء يوجد في الوقت الحاضر .

دون بيل ـ قرات أنه تتم مؤاخذتك ، في بلدك الأرجنتين ، لكونك لست كاتبا إقليميا . ماذا كان رد فعلك تجاه هذا النقد ؟

خورخي لويس بورخيس ـ طيب ، كي أكون صريحا ، أعتقد أن لا معنى لذلك . علاوة على ذلك ، فأنا أرجنتيني ، أبي وجدي كانا أرجنتينيين من قبلي ، إلا أن جدتي كانت إنجليزية . لا أرى لماذا ينبغي علي تبرير كوني أرجنتينيا ، بما أنني واحد . لن أقلق بشأن ذلك . أحاول أن أبدل كل ما في وسعي كي أكون معاصرا . ففي كتابي الأول حماسة بوينس آيرس (El Fervor de Buenos Aires) ، الذي ظهر سنة 1923 ، أتحدث فيه عن المشهد الطبيعي الأرجنتيني ؛ ويستحيل علي النأي عنه . وحتى في قلب أيوا Iowa) ( قبل بضعة أسابيع ، فقد داهمني على حين غرة إحساس بتأثير كبير لم يكن تماما بسبب كوني سعيدا بتواجدي بأيوا ، بل لأن مدح الغرب الأوسط يمنح تماما ما يمنحه سهل البامبا Pampa) ( المعشوشب في الأرجنتين . قلت في نفسي : ها أنا ذا في أمريكا ، لكنني عدت أيضا إلى بلدي . وقد اكتشفت أن ذلك كان تدبيرا موفقا .

كسل لا يُقهر !

دون بيل ـ من الغريب أنه لم يسبق لك أبدا أن كتبت أكثر من عشر صفحات أو اثني عشرة صفحة . علامتك التجارية هل تسمى ficcciones) ( أو تخييلات fictions) ( . هل تعتبر مختلفة عن القصص القصيرة ؟ كيف يمكنك تقديم وصف لتخييل ما ؟

خورخي لويس بورخيس ـ أعتقد أني سأصفه مثل قصة قصيرة ، نعم . على أنه فيما يتعلق بإيجاز كتابي ، أستطيع أن أعطيك سببين . السبب الأول هو كسلي الذي لا يُقاوم . أما السبب الثاني يكمن في أنني  لطالما تدلهت بالقصص القصيرة ثم إني أجد على الدوام صعوبة في الوصول إلى نهاية روايات الآخرين ، باستثناء بعض الأعمال مثل ، لاحظ … ، رواية شارل ديكنز Pickwick Papers)  ( ورواية مارك توين Huckleberry Finn) ( ، دون كيشوت ، رواية لورد جيم Lord Jim) ( لجوزيف كونراد وآخرين . كما أني مهتم بكبلين Kipling) ( ؛ لم أكتشفه إلا في آخر أيام حياته ، كان بمقدوره أن يضم إلى قصة قصيرة العديد من الشخصيات إن لم يكن أكثر من الأغلبية التي لا تستطيع أن تدمجها في رواية ما . كما إني كنت أقول لنفسي أنني أحب على وجه الاحتمال محاولة هذا النوع من اللعب وكتابة قصص قصيرة حيث تتكوم الشخصيات . وبحكم كوني كسولا جدا

عن التعليم (و) الحب

 فإني ” أعتقد أنه بالإمكان فقط تدريس الحب من أجل شيء ما . فبالنسبة لي ، فقد درست ، ليس الأدب الإنجليزي ، بل حب هذا الأدب . أو بالأحرى ، الحب بالنسبة لبعض الكتب ، بعض الصفحات ، وربما بعض  الأبيات الشعرية ، بما أن الأدب غير منته افتراضيا . لقد قدمت هذا الدرس طيلة عشرين سنة بجامعة الفلسفة والآداب . كان لدي ما بين أربعين وخمسين طالبا وتصرفت في أربعة أشهر . التواريخ وأسماء الأعلام لم تكن ذات أهمية ، لكنني توفقت في أن أحبب لهم بعض المؤلفين وبعض الكتب . وثمة مؤلفون لا أعتقد أنهم جديرون بذلك ، لن أتحدث عنهم إذن . لأنه عند الحديث عن مؤلف ما ، فلابد أن يُكتشف من قبل شخص ما . بمعنى أن ما يقوم به أستاذ هو اكتشاف أصدقاء من أجل الطلاب . سواء أكانوا معاصرين ، أو موتى منذ قرون ، أكانوا ينتمون إلى هذه الناحية أم إلى تلك ، هذا هو أقل ما يمكن القيام به . الأهم هو العمل على اكتشاف الجمال ، وبالإمكان فقط اكتشاف الجمال عند الإحساس به . (…)

      ” إن الحب هو شيء أساسي جدا إلى حد أنني لن أستطيع تقديم تعريف له من دون اختزاله في كلمات . أعتقد أنني لطالما كنت محبا ؛ قد يكون ذلك مثيرا للسخرية ، في هذه السن ، لكن الحقيقة أن الحب يرافقني . الحب والصداقة . وألاحظ ـ ثم إن هذا يبهجني ـ أنني لم أشعر بالحقد أبدا في حياتي . لما كنت صغيرا ، عُلّمت الكراهية تجاه قريبي البعيد ، خوان مانويل دو روزاس Juan Manuel de Rosas) ( ، واعتقدت أنني أكرهه . ليس في الوقت الحالي ، الآن أشعر أنني قادر على الحب ، الصداقة ، لكن ليس الكراهية ، ثمة أشياء ، بطبيعة الحال ، بإمكانها إيلامي ، لكننني أحاول نسيانها . قال برغسون بأن الذاكرة انتقائية . من الممكن أن تكون ذاكرتي خاطئة ، لأن أبي ، وهو أستاذ في  علم النفس ، قال لي أن كل مرة يتم تذكر شيء ما ، فإن المرء يدخل عليه تغييرا خفيفا ؛ فحينما يتم التفكير طويلا في الأشياء ، فإنه يتم تعديلها شيئا فشيئا في الذاكرة ، التي تتكون ، كما أفترض من أجزاء كبرى من النسيان . طيب ، أشعر الآن أنني مفعم بالصداقة ، ملآن حبا وآمل الاستمرار في ذلك حتى لحظة ـ ليس بعيدا جدا ، أتمنى ـ موتي ، بما أنني اقترفت إفشاء السر بلوغي 86 سنة . والموت ، الذي هو أيضا يعتبر أملا ، يمكنه أن يحتفظ لنا بمفاجآت . أنا لا أعتقد ، أتمنى أن يمحوني الموت ، على أنه إن كانت هناك حياة أخرى بعد ذلك ، سأقبل بها كما قيلت بهذه الحياة . يعتاد المرء على كل شيء ، على الحياة ، الموت ، والألم الجسدي . ” 5

عن تأثير الكلمات

” لا أدري [للفهم] هل يمكنني التمييز بين [نبرة ومحتوى الكلمات ] . أود القول أن كل كلمة هي كائن ، جوهر ومن المحتمل أن لا وجود للمترادفات . لست على يقين أن عبارة luna) ( القمر معادلة تماما للعبارة الإنجليزية moon) ( القمر ، أو lune ) ( الفرنسية . لكن من المحتمل أن moon) ( و lune) ( هما أكثر قربا لأنهما كلمتان لهما مقطع واحد ، لكن لربما … أن كل كلمة هي كائن . فلهذا السبب أعتقد أنه من المستحيل ترجمة الشعر . بالنسبة لي ، فكلما أقرأ ترجمة لإحدى قصائدي في أي لغة من اللغات ، إلا وقلت : ” يا إلهي كم هي جميلة هذه الأبيات الشعرية ، أتمنى لو كنت أنا من كتبها ! ” (…)

      ” أعتقد أن نعم [ أن الشعر والنثر هما أداتان فضليان للكلمة ] : كل موضوع يشير إلى الكاتب ـ ليس ذلك متوقفا عليه ـ هل يرغب في أن يُعبر عنه شعرا حرّا ، الصيغ الكلاسيكية ، الكتابة الإيطالية ، السونيتة أو النثر . وهكذا فكر ستيفانسون  Stevenson) ( بأن النثر هو الشكل الأكثر تعقيدا للشعر . أكد ملارميه أن الاعتناء بما يكتبه المرء ، هو نظم الشعر . وبالنسبة لستيفانسون ، لو كان بحوزة المرء وحدة عروضية ( على سبيل المثال ، البيت ذو المقاطع الثمانية octosyllabe) ( للرومانس romancero) ( والأغاني الشعرية الرعوية payadores) (  ، يكفي ترديد هذه الوحدة لامتلاك القصيدة ؛ ويمكن لتلك الوحدة أن تكون البحر الإسكندراني alexandrin)  (، أو البحر سداسي المقاطع hexamètre) ( ، ـ نسق من مقاطع لفظية طويلة وقصيرة ، لكن … عندما تكون هذه الوحدة في حوزتنا فإنه لابد من تكرارها . خلافا لذلك ، ففي النثر ، لابد من التنويع باستمرار ، بطريقة تكون ممتعة . عندما شرعت في الكتابة ، ارتكبت خطأ بأن أغلبية الشباب الكُتّاب يتصورون : أن الشعر الحر هو شكل غاية في السهولة . وهو في حقيقة الأمر ليس كذلك . وستيفانسون الذي اعتبر النثر شكلا أكثر تعقيدا من الشعر ، ينضم إلى القول : لا وجود لأدب بدون شعر ، على أنه ثمة آداب لم تتوصل أبدا إلى مرتبة النثر . (…) ” يمكن لسحر الكلمات الاستغناء عن الشكل الخطي . يأتي الشكل الخطي بعد ذلك بكثير . سأقول أنه موجود في النبرة وإيماءات الكلمات ، في بيئة الكلمات . ومع ذلك ، سيكون من المحتمل أنه في الشعر الصيني والياباني تكون الكتابة ذات أهمية قصوى ، لأنهم يستعملون الkanyis) ( ، الكتابات الرمزية idéogrammes) ( . سأقول ، بأن الشكل الخطي ليس مهما . وسأقول أن الشعر هو قبل كل شيء ، الإيقاع .

     ” لما شرعت في الكتابة كنا كلنا تحت تأثير ليخونيس Lugones) ( . كان يعتقد أن الاستعارة تشكل عنصرا أساسيا في الشعر . وقال إمرسون أن اللغة هي الشعر الأحفور . فهو كان يعتقد أن الشاعر ينبغي عليه اكتشاف استعارات جديدة . وأنا أعتقد أن لا ؛ ثمة بعض الاستعارات أساسية يتلفظ بها مع تركيبات مختلفة ، مع نبرات مختلفة ؛ وهذا كاف بالنسبة للشعر . ومع ذلك ، أحيانا توجد استعارات جديدة ، لذلك ينهار كل شيء (…) ” إن أصل الكلمة ، هو بالأحرى سلسلة مغامرات للكلمة ، على أن تلك المغامرات مثيرة للاهتمام . أفكر في الوقت الحاضر ، على سبيل المثال ، في الكلمة الكارايبية ، اسم قبيلة بمنطقة البحر الكارايبي . ثمة ، والحالة هذه ، عبارتان معروفتان في العالم أجمع : آكل لحم جنسه cannibale) ( ، آكل لحم البشر anthropophage) ( ، وشخصية كاليبان caliban) ( … طيب ؛ ثمة اشتقاقات غريبة أخرى . لدينا كلمة blanco) ( الإسبانية ـ ما تعنيه هذه العبارة بديهي ـ ثم عبارة black) ( التي تعني أسود . وقد انزلقت في الإسبانية ، الفرنسية ، الإيطالية والبرتغالية إلى جانب الوضوح أما الآن فهي تعني أبيض blanc) ( . مثيرة للفضول ، مغامرة الكلمات هذه . تذكر عبارة ” تعويذة ” » abracadabra «  ، كل ما أعرفه هو وجودها في أول صفحة في أي موسوعة مهما كانت ؛ ثم إن ذلك يُكتب على شكل مثلث … ، هذا كل شيء . (…)

     ” [ تناوب في اللغة مثل وسيلة للتعبير سيكون ] ربما هو الموسيقى ، لأننا نعرف من خلال Pehiteers) ( أن كل الفنون تصبو إلى مرتبة الموسيقى . ليست لدي أذن موسيقية لسوء الحظ ، مع أنني أحب الموسيقى الشعبية ، لاسيما موسيقى البلوز والموسيقى الزنجية الروحية ، والميلونغا milonga) ( … لكنني أعتقد أن الفن السامي قد يكون هو الموسيقى . تمنيت أن أكون جديرا بالموسيقى . أرغب ، لكنني لست جديرا بهذا الفن ، أحبه عن بعد ، الذي بالكاد أميزه والذي سيكون بالنسبة لي الفن L’ART) ( . (…)

      ” لكي أقدم تعريفا للفن ، سأقوم بانتحال شخصية أختي نورا Norah) ( . فلقد طُلب منها بأن تعرف فن التصوير . فأجابت : ” فن إدخال البهجة من خلال الألوان والأشكال ” . إنه تعريف كأي تعريف آخر ، بطبيعة الحال . لكني أعتقد أنه تعريف جميل ، ” إدخال البهجة ” . ففي حالتي ، والحالة هذه ، لا أعرف ما إذا كانت التعريفات ذات أهمية ، يبدو لي أن الأشياء الأصيلة لا ترغب في أن تُعرّف ؛ كما لو كان علينا تعريف مذاق القهوة ، أو اللون الأصفر . من غير الممكن القيام بذلك . ” 6

اختيارات الكاتب

” كي تكون قادرا على كتابة الروايات ، لابد لك من أن تكون قارئ روايات ، وبالنسبة لي فقد قرأت القليل منها في حياتي . يبدو لي أنه يستحيل كتابة رواية من دون حشو . ومع ذلك فإني قرأت وأعدت قراءة دون كيشوت . بالإضافة إلى ذلك ، لو طُلب مني تسمية روائي ، سيكون كونراد ؛ ففي رواياته نوع ملحمي لم أجده عند آخرين . من بعد ذلك مباشرة ديكنز . لقد صرفت النظر عن كثير من الروايات المعروفة ؛ حاولت قراءة الحرب والسلم ، الجريمة والعقاب اللتين أثرتا في ، لكنني أخفقت مع فلوبير ، سارتر ، وآخرين في النهاية . خلافا لذلك ، يبدو لي أن القصة القصيرة يمكن أن تكون جوهرية ، يملك المؤلف كامل الحرية . يمكن لمؤلف ما امتلاك قصة قصيرة كاملة في ذهنه ، لكن ليس رواية ، لأنها تنكتب وتقرأ بالتتابع . الرواية هي شيء بالكاد يتمكن المرء من تمييزها عن بعد . لهذا السبب فإن الرواية بدون إطالة تبدو لي مستحيلة ، على أن قصة قصيرة لكيبلينغ مثلا يمكن أن تنفلت عن ذلك تماما .

     ” لم أكتب روايات لأنه بالنسبة لي ـ فأنا رجل خجول ـ ، ولوج رواية ما أشبه بالدخول إلى غرفة بها مائة شخص ؛ أشعر أنني منذهل إلى حد ما ، وبالتالي ينبغي التعرف عليهم ، لابد من معرفة من هم ، ما هي أواصر القرابة ، العلاقات فيما بينهم … كل ذلك يستوجب مني بذل مجهود جبار . إن القصيدة أو القصة القصيرة ، خلافا لذلك ، متاحتان على الفور ولا تتطلبان جهدا . (…)

      ” [ اللانهاية في ” كتاب الرمل ” ؟ ] تنتمي هذه القصة القصيرة لسلسلة قصص قصيرة ففيها ثمة شيء يتبدى بعد ذلك محتوما . فعلى سبيل المثال يمتلك ، فونيس Funes) ( ذاكرة لامحدودة ليموت مثقلا بواسطتها . في ” الزهير ” ثمة شيء لا يُنسى يقتل كل من يفكر فيه باستمرار . في ” كتاب الرمل ” ، ثمة كتاب لانهائي يكاد يجعل كل من يمتلكه مجنونا ثم إن هذا الأخير سرعان ما يفقده في المكتبة الوطنية ، لكنها القصة ذاتها ، فكرة شيء ثمين يتبدى في الأخير مرعبا ، شيئا يشبه الهبة لكنه في الحقيقة هو عقوبة ، تنكيل . يتعلق الأمر فعلا بنفس القصة . ” كتاب الرمل ” هو ال”زهير ” هو … أخيرا . إنها روايات مختلفة لنفس القصة المقنّعة بشكل مخيف . ” 7

عن الطفولة ، عن الشباب

” ابتداء من السنة الرابعة أو الخامسة يصبح الأطفال ساحرين . سوف أروي لك طرفة رويتها لمرات عديدة . لقد اعتدنا سرد أحلامنا في البيت . تحدثت إلى ابن أختي ، ميغيل Miguel) ( ، في قرية Androgué) ( التي توجد بجنوب بوينس آيرس . طلبت منه أن يحكي لي منامته هذا الصباح . فقال لي آنئذ ” تهت في الغابة لكننني رأيت منزلا أبيض خشبيا صغيرا ، فذهبت إلى هناك ، ثمة ممر يحيط بكل شيء وثمة درجات . صعدت ، طرقت الباب وأنت ، خرجت تحمل كتابا في يدك ” . ثم توقف وقال لي : ” قل ماذا كنت تفعل بذلك الكتاب ؟ ” قلت له حينئذ فقد ذهبت إلى البيت بحثا عن هذا الكتاب ثم استعاد قصته دون أن يدرك العمل الرائع : الالتباس بين الحلم وما يسمى بالواقع ، بالرغم من كونه حلما ، فهو حقيقة . (…)

      ” ما أنوي قوله للشباب الأرجنتيني في الوقت الراهن ] : إن المستقبل يتوقف عليهم . لن أستطيع فعل شيء ، فأنا رجل مسن ؛ لا أتصور أنه لا يزال لدي الكثير من الأيام والسنين في حياتي . لكن هم نعم ، والمستقبل يتوقف عليهم . فأن نقول ” عليهم ” فذلك أكثر غموضا ؛ الأصح متوقف على كل واحد منكم . يوجد الخلاص في كل واحد منكم ، ليس خلاص العالم ربما أيضا . لما لا ؟ لنكن مسؤولين غاية المسؤولية .

      ” [ إلى الشباب الذين يبدو أن الكتابة ] ، لهم أُقدّم النصيحة التي قدمها لي والدي منذ وقت طويل : أكتب لما أكون في حاجة حميمة إلى فعل ذلك ، وعدم التفكير في النشر . كان إميلي ديكانسون (Emily Dickinson) يعتقد أن النشر لم يكن جزءا جوهريا من قَدَر كاتب ما ، لكني أعتقد أنه لما يكتب المرء تحت الضغط الملح للأشياء التي تستوجب الكتابة ، فإن النتيجة لن تكون غير ذات أهمية كرها . إن فكرة الجلوس من أجل كتابة شيء ما تبدو لي فكرة خاطئة ؛ والرغبة في البحث عن موضوع هي أيضا . لابد من ترك الموضوعات هي التي تسعى في البحث عنا واكتشافنا كما ينبغي للمرء البحث في أن يكون جديرا بتلك الموضوعات . لكن أن يحدد المرء موضوعا ويقول في نفسه : ” سوف أكتب هذا المساء سونيتة ، يبدو لي ذلك سخيفا . ”

عن السياق السياسي

” يصعب إلى حد ما الإبقاء على الأمل ، لكني أسعى إلى حيازته ، بطبيعة الحال . إنها مهمتنا ، على ما أعتقد . فإذا ما سعيت وراءه ، فهو من نصيبي يكون . (…)

     ” ماذا كانت مشاعري أثناء المحاكمة العلنية ضد القادة السابقين ؟ بالتأكيد لم تكن مشاعر بغض ؛ لأنني لا أؤمن بالإرادة الحرة . أشعر بالشفقة . الشفقة على الضحايا والجلادين أيضا . إني أراهم كلهم ضائعين كذلك . لكن بدون كراهية . ففي هذا العمر ، لا قدرة لي على الكراهية . الاستياء ، نعم . فعلى سبيل المثال ، إني آسف تقريبا على كل ما كتبته ، لكن في الوقت الحاضر يتعذر ترميم ذلك . (…)6

      ” [ فيما يتعلق بالنفوذ العسكري أثناء تلك السنوات التعيسة من تاريخ الأرجنتين ] ، فإن ضميري مرتاح . لقد نشرت كتابا يضم حوارات قبل الانتخابات حيث قلت ما كنت أفكر فيه عن تعسف الحكومة العسكرية ، الأشخاص المعتقلين ، أحيانا يتعرضون للتعذيب وفي أغلب الأحيان يتم اغتيالهم ، عن أكثر الحروب غموضا … قلت كل هذا قبل انتخاب ألفونسان Alfonsin) ( . من الواضح أنني أتمتع بنوع من الحصانة ـ فأنا بورخيس ، معروف إلى حد ما ـ ، لكني تصورت أنه كان واجبي في الإفادة من تلك الحصانة كي أقول ما كان يخالج أفكاري عن الزمن الرديء للوطن . ثم أنا الذي كان يؤمن آنفا بأن الديموقراطية كانت ” مغالاة في علم الإحصاء ” ، أعرف في الوقت الحالي أن الديموقراطية الأرجنتينية جاءت لتكذيبي لحسن الحظ . (…)

      ” الديموقراطية تعتبر هشة بالأرجنتين لأن تاريخ أمريكا اللاتينية هو تاريخ فظيع ، تاريخ دكتاتوريين عسكريين . تصور فقط الأسماء ، التي كانوا يحملونها : راميريز Ramirez) ( ، الذي كان يطلق عليه ـ أشبه بقوة ، عظيم مقاطعة دو نترا ريوd’Entre Rios) ( ؛ أرتيغاArtigas) (، حامي الشعوب الحرة ؛ كيروغا Quiroga)  ( ، الذي كان يسمى المواطن العظيم … ومؤخرا ، بالقرب منا ، بيرون Peron) ( كان يسمى من قبل الجماهير العامل الأول ، وزوجته المرأة الشقراء . إضافة إلى ذلك ، كان يوجد بالباراغواي سولانو لوبيز Solano Lopez) ( ـ مسؤول عن حرب الباراغواي ، كارثة بكاملها ـ ، كان يُدعى العظيم ، عظيم مقاطعة دونترا ريو ، حامي الشعوب الحرة ، المرأة الشقراء أو العامل الأول . ” 7

أقبل وقت الكتابة ، ليس بخلدي هذا العيب عندما يتعلق الأمر بالتفكير . يحلو لي صياغة القصة القصيرة ثم بقدر الإمكانات ، محاولا أن أدخل الجزئيات الضرورية . أعرف المزيد عن الشخصيات أكثر مما أضعه بالفعل في كتاباتي .

دون بيل ـ حينما يتكلم الناس عن بورخيس ، فإنهم يُنوّهون دائما بعمق معرفتك ، بالآلاف وآلاف الكتب التي قرأتها … وفرة الكتابات التي قرأتها ، ما هو الكتاب الذي أثار إعجابك أكثر ؟

خورخي لويس بورخيس ـ طيب ، لم أقرأ على الدوام كتبا تستدعي المألوف وأقرؤها من أجل سعادتي . وهو ما يفسر رغبتي في إعادة قراءتها . سألتني إذا ما كان هناك كتاب معين . لطالما تم التساؤل ما الذي كان سيختاره روبانسون كروزوي في الميولات الأدبية ، كلا ؟ أفترض أنني أستطيع الإجابة بمهارة بأن هذا الكتاب سيشكل بالنسبة إلي الموسوعة البريطانية ، التي تشكل بمفردها مكتبة . ولكن ربما لو استطعت وضع اليد على دو كوينسي De Quincey) ( في أربعة عشر جزءا ؟ ـ لكن عندها أتساءل ما إذا كان سيسمح لي بهذا المقدار … ربما إن تاريخا للفلسفة كان سيكون اختيارا أكثر حكمة ، مثل [كتاب]  تاريخ الفلسفة الغربية لبرتران روسل ؛ فهو عمل في مجلد واحد يتضمن ثمان أو تسع مائة صفحة . نعم ، دعنا نقول أنه في هذا اليوم الذي أقضيه بكندا ، فعلى هذا العمل سيتوقف اختياري .

دون بيل ـ أود أن نتحدث الآن عن دور السكين في تخييلاتك وقصائدك الشعرية . فتبعا لأحد مترجميك إلى الإنجليزية ، تطاردك فكرة السكين ، الإفحساس بالسكين يقويك . ففي العديد من محكياتك ، مات  بطلك أو انتحر بواسطة السكين .

خورخي لويس بورخيس ـ طيب ، أفترض لأنه في بلدي ، كانت الأسلحة النارية شديدة الندرة حتى بعد بداية القرن ، بحيث أن الناس كانوا يتصورون المعارك دائما مثلما يحدث بين أناس مسلحين بالسكاكين . من ثم ، بطبيعة الحال ، فإن ذلك السلاح يضع شجاعة شخص ما موضع اختبار . يستوجب العراك بالأيدي البَسَالة . و ، بطبيعة الحال ، فإن أسلافي كانوا جنودا . على الرغم من أنني لا أعتقد أنهم كانوا يستعملون السكاكين ، فقد شاهدت سيوفا في البيت ثم إن تلك السيوف ، أفترض ، لا يمكن أن تكون لها وظيفة تزيينية فقط ، أليس كذلك ؟ لقد قاتل جدي أثناء اضطرابات في الحدود مع الأوراغواي ، والد جدي جابه الإسبانيين والبرازيليين ؛ فأنا من أرومة عسكرية إذن .  ربما إن ذلك يفسر الكثير من الأشياء في كتاباتي . أعتقد أنني كنت سأكون جنديا تافها جدا ، لكنني لطالما شعرت بنوع من الندم بخصوص الحياة العسكرية ؛ فهذا هو ما يجعلني تحديدا أعشق الشعر الملحمي . علاوة على ذلك فلما كان علي أن أسوق لك استشهادا ملحميا لكيبلينغ حول نساء النورفيجيين من عهد قريب . أشعر أنني دائما كما لو أنني مررت إلى جانب جزء من حياتي وكان علي أن أحلم حياتي بين الكتب . طبعا أنا غير منصف إلى حد كبير تجاه الكتب لأنها قبل كل شيء تعتبر واقعية تماما ، إن لم تكن أكثر بكثير ، من السكاكين والسيوف .

دون بيل ـ إذا سمحت ، نغير الموضوع و ..

خورخي لويس بورخيس ـ نعم ، دعنا من صناعة السكاكين 

وعن لا أدرية حصيفة

دون بيل ـ ثم نتكلم عن استحواذ آخر من استحواذاتك ، التفاعل بين الزمن والفضاء : لنسمي ذلك سحرا . هل تعتبر نفسك نصيرا للفوطبيعي ؟

خورخي لويس بورخيس ـ كنت أود الإجابة عن السؤال بالإيجاب ، لكنني لست متيقنا من ذلك تماما . كما قلت ذلك لصديقي م . ألفاريز (M. Alvarez) 5 ، بالنسبة لسؤال الحياة بعد الموت وعن الخلود ، عن الحياة في أجسام أخرى أو أرواح أخرى ، إنني تماما مثلما كان سبينسر قادر على المعرفة لكنني أرغب في الحفاظ على الذهن منفتحا . لذلك فلو سألتني ما إذا لو كنت أؤمن بحياة في العالم الآخر أو لا ، إذا ما كنت أؤمن بالإله أو لا ، فلا أملك إلا أن أجيب بأن كل شيء ممكن . إن ذلك ليس مستبعدا إذن . على أي حال ، أعتقد أنه من الغريب أنني أعيش بداخل جسدي ، وبعيني أستطيع مشاهدتك ، أن لغة بشرية ثم إن فمي يتيحان لي الحديث إليك ؛ لذلك ، فإذا كانت تلك الأشياء ممكنة ، فلماذا لا تكون أشياء أخرى خارقة ممكنة ؟ لماذا لا أكون خالدا ؟ لماذا لا أكون إلها ، كائنا لا نهائيا ؟ في النهاية ، فإن كل شيء ممكن ، بحيث أنه ليس بمقدور المرء إثبات أي شيء أو نفيه .

دون بيل ـ وأنت قدمت البرهان في محكيين من محكياتك وخصوصا ، ” فونيس أو الذاكرة ” و ” الألف ” . 

خورخي لويس بورخيس ـ  نعم ، ففي حالة فونيس ، أتاني ذلك أثناء فترة سهاد . في الإسبانية ، على الأقل كما يتم النطق بها بالأرجنتين ، ثمة عبارة جميلة . فبدلا من قول استيقظ ، نقول recordarse) ( ، تذكر نفسك . إنها عبارة صحيحة حرفيا . وهكذا ، مثلا ، لما صحوت هذا الصباح ، داهمني إحساس بأنني كنت أعيش في نوع من الفضاء اللامحدود وفجأة هو ذا أنا بورخيس ، أتواجد بكامبريدج ، وينبغي علي الذهاب إلى كندا ، وهكذا دواليك . لذلك كان علي تذكر وضعي فيما يتعلق بالعالم بإسره . ففي حالة فونيس ، فكرت في أن رجلا يرزح تحت قيود عدد كبير من الذكريات ما كان بإمكانه أن ينام . لذلك تصورت فونيس محتظرا افتراضيا تحت ثقل الذكريات . لو تذكرت ، لحظة موته ، بالرغم من أنه لا يزال في ريعان شبابه ، لديه كثير من الذكريات إلى درجة أنه لا يملك القدرة على صياغة أفكار عامة ومن ثم فإن تلك هي النهاية بالنسبة إليه .

دون بيل ـ وكان المحكي الآخر هو ” الألف ” …

خورخي لويس بورخيس ـ ففي ” الألف ” ، كانت لدي فكرتان في ذهني . الفكرة الأولى كانت عن الفكرة القديمة للعالم الصغير macrocosme) ( ، فكرة أن العالم بإسره ، الكون بأتمه ، العالم الخارجي ، يمكن ، طالما أننا نعرف ذلك ، أن يختزل أو يُفهم في حيز ضيق جدا ، بحيث أنه من الممكن ، مثلا ، أنه بداخل دائرة صغيرة متألقة في منزل كئيب لبوينس آيرس ، يمكن العثور على الكون بإسره ، وبداخل ألف أخرى وهكذا دواليك حتى اللانهاية . ثم خطرت لي فكرة أخرى : توهمت شخصا مُنح امتياز مشاهدة الكون والذي صمم على ألا يفيد من ذلك إلا من أجل كتابة قصيدة ، لا معنى لها . ثم إن تينك الحبكتين توجدان منتسجتين في المحكي .

دون بيل ـ أجد أنه من الغريب أن البعض من قصصك ظهر في مجلة (Mastery Magazine) لإليري كوين Ellery Queen) ( .

خورخي لويس بورخيس ـ أوه ، إني فخور بذلك . فقد حصلت على جائزة ثانية .

دون بيل ـ بطبيعة الحال ، لا يمكننا مقارنتك بميكي سبيلاين Mieckey Spillane) ، روس ماكدونالد (Ross Macdonald) أو داشيل هاميت (Dashell Hammett) ، ستتم مقارنتك على الأصح بشاسترتون Chesterton) ( ، بو poe) ( وكافكا .

خورخي لويس بورخيس ـ لا أعتقد أنه كان يمكنني كتابة رواية بوليسية معقدة جدا كما تعرف ، مع جثث مليئة بالدم ، حبكات جنسية ، حتى ولو كان ذلك من أجل إنقاذ حياتي … لكني أتساءل لو كنت سأوجد بدونهم لاسيما ، بدون دوكوينسي ، لقد قرأت أعماله ، بتاريخ 1916 أو 1917 ، ومنذ ذلك الوقت كان يبدو لي أنني لم أقم إلا بتقليده أو إعادة قراءته على طريقتي الجنوب أمريكية .

دون بيل ـ ضمن واحد من تخييلاتك ، تحكي قصة رجل حلم بتحوله إلى فراشة فتساءلت هل حقا أن رجلا يحلم أنه كان فراشة أو إذا ما كانت فراشة تحلم أنها تحولت إلى رجل ؟

خورخي لويس بورخيس ـ أود القول إنني اخترعت هذا . لكنني استعرته من المتصوف الصيني شوانغ تزو (Chuang Tzu) في عمل كنت قد اطلعت عليه سنة 1915 تحت عنوان شوانغ تزو ، متصوف ، أخلاقي ومصلح اجتماعي . أعتقد أن هذا يجعلنا ندرك إلى أي درجة نعيش حياتنا مثل حلم أكثر بكثير مما لم يقم شكسبير بفعله ، بتعبيره ” نحن مثل أشياء صيغت فيها الأحلام ” ـ إذ أن ثمة تصريح عام جدا . على أنه في هذه الحالة ، فإن الفراشة تستحضر تجاور الحلم والحياة ـ أتصور أن المثل غاية في الكمال .

دون بيل ـ أجد أن الطريقة التي تستشهد من خلالها بمصادرك مشوشة . أحيانا تكون أصيلة لكن غالبا فإنها تبدو مختلفة . يشعر القارئ بالضياع إذ إنه لا يدري ماذا يصدق .

خورخي لويس بورخيس ـ سوف أشرح لك .أعطيك كلمة شرف بأنني سأتصرف جيدا أثناء وبعد هذا الحوار . سوف لن أبتكر مؤلفين افتراضيين بعد ، سأجيز لنفسي أي استشهاد خاطئ ؛ سأبذل ما في وسعي كي أبجل هذا الهدف النبيل الذي سألتزم به .

دون بيل ـ بورخيس ، ها أنت تعيش بأمريكا الشمالية منذ سنة كما تشغل كرسي إليوت بورتون بهارفارد . كيف كان رد فعلك تجاه التيارات التي تنشط مجتمع أمريكا الشمالية ؟

خورخي لويس بورخيس ـ بالرغم من نوع من الحنين إلى الوطن وشعور معين من الكآبة المبهمة ، فإن كل الأشياء تعتبر ، بطبيعة الحال ، محتومة ، اتسع إدراكي كثيرا بالنسبة لما كنت أدركه قبل المجيء إلى أمريكا . لقد حدث أول اتصال لي بهذه القارة حينما كنت طفلا صغيرا مع رواية مارك توين Huckleberry Finn) ( . تلك كانت أول صورة ملموسة لي عن أمريكا ، مع Huckleberry Finn) ( ، المسيسيبي ، الطوف ، جيم Jim) ( الصغير وهكذا دواليك . ثم بريت هارث Bret Harte) ( وبو Poe) ( . بعد ذلك مباشرة ، قرأت ، شيء غريب ، الكتاب الأول للتاريخ الذي توفقت في قراءته كاملا ، والذي لم أكن أقل فخرا به ، وكتاب Conspiracy of Pontiac) ( لباركمان Parkman) ( . لذلك فقد خالجتني على الدوام مشاعر خيرة تجاه أمريكا . لقد كانت على الجانب الصحيح في الحربين العالميتين والآن ، إلى حد ما ، فكما لو إني عدت إلى أمريكا . علاوة على ذلك ، أجد أن كل شيء جذاب في هذه القارة . أجد أن الناس ودودون جدا . البارحة ، مثلا ، ما أن ألقيت محاضرتي الرابعة بجامعة هارفارد ، حتى لاقيت ترحيبا كما لم ألقاه في بلدي ولا في أي مكان من العالم . أعتقد أن هذه القارة هي قارة مفعمة بالأمل . بطبيعة الحال ، كنا في بلدي فريسة لنوع من الإحباط . فقد عشنا في ظل الديكتاتورية . أتمنى أن تتعافى البلاد لأنني أرجنتيني صالح وأثق في مستقبل بلدي . في ذات الوقت ، حينما يأتي المرء إلى هنا ، يشعر بأنه يحل في عالم يملؤه كثير من الأمل . يحتل بلدي بالنسبة لي أهمية كبرى . لن أغتابه . أقول لك ببساطة الحقيقة إذ إني أؤمن بأنني أصرح لك بالحقيقة .

دون بيل ـ دون الرغبة في جرح إحساسك ، هل قررت كيف ستكون قبريتك ؟

خورخي لويس بورخيس ـ يمكنك منحي بضع سنوات للتفكير في الأمر … ولكن ربما يكون بالإمكان أن يقرأ المرء هناك : ” هنا يرقد فلان الفلاني ، الذي لم يكن الموت بالنسبة إليه أقل عسرا ولا أقل إذهالا من الحياة ” . أقول لك هذا تحت وحي اللحظة . فبالرغم من أنني ، ربما ، لن أجد الموت أكثر صعوبة للفهم ولا أشد عجبا من ذلك . من المحتمل أنني ساصطدم ببساطة بجدار ، لا… ؟

ــ

مصدر النص :

مجلة Nuit Blanche magazine littéraire  عدد 38 ، سنة 1989 الصفحات : 34 ـ 41 . انظر موقع : www.erudit.org/fr/revues

أجرى الحوار دون بيل Don Bell) ( وتمت ترجمة الحوار عن الإنجليزية بواسطة لورين بوليو Loraine Pouliot) (

1 ـ عن قصيدة ” بورخيس وأنا ” ( ترجمة إبارا Ibarra) ( .

2 ـ ثمة نظرية مفادها أن الأكاديمية السويدية عبرت عن امتعاضها من بورخيس لأنه لم يتخذ موقفا بالمقدار الكافي من الحزم ضد الدكتاتور الأرجنتيني القديم خوان بيرون Juan Peron) ( ؛ ودفاعا عن بورخيس ، يمكن القول أنه كان قبل كل شيء أديبا ، لا يهتم بالسياسة أساسا ، كما أن محكياته ، بتوسيعها لآفاقنا ، كانت في حد ذاتها اتخاذا لمواقف لصالح حرية الفكر والحرية بعد كل ذلك .

3 ـ في المجموعات الأخرى ( ثمة تقاطعات ) نعثر على متاهات ، تخييلات ، الألف ونصوص أخرى ، بورخيس : القارئ ؛ يتضمن هذا النص الأخير ، في النهاية ، جزءا معلقا عليه ، آسر تماما ، يصف خلفية كل قطعة مع إرجاع وتلميحات للمحكيات الأخرى وقصائد ذوات ثيمات مماثلة ؛ ومع ذلك فإن إحدى المحكيات الجيدة ، مثل ” شكل السيف ” التي نشرت في متاهات ، ليست مدرجة في بورخيس : القارئ .

4 ـ ملاحظة المترجم : ترجمة حرة .

5 ـ القنصل الأرجنتيني في ذلك العهد . لن نذكر من عمل بورخيس الضخم إلا بعض العناوين : تخييلات ، غاليمار ، 1985 ؛ الألف ، غاليمار ، 1977 ؛ كتاب الرمل ؛ غاليمار، 1978 ( فوليو ، 1983 ) ؛ Chroniques de BustosDomecq) ( ، دونويل ، 1980 ( مع أدولفو بيوكساريس ) ؛ ست قضايا من أجل دون إزيدرو بارودي ، دونويل ، 1980 ؛ كتاب المخلوقات العجيبة ،  bourgois,1981  ، مع مارغاريتا غيريرو Marguerita Guerrero) ( ؛ المؤلف ونصوص أخرى ، غاليمار 1982 ؛ إيفاريستو كارّييغو (Evaristo carriego) سومي ، 1984 ؛ التاريخ الكوني للخزي : تاريخ الأبدية ، بورغوى ، 1984 ؛ حكايات جديدة لبوستوس دوميسك Bustos Domecq) ( ، لافون ، 1984 ( بالاشترا مع أدولفو بيوكساريس ) محاضرات ، غاليمار ، 1985 .

6 ـ حوار من إنجاز خوسيه أنطونيو سيدرون (Antonio Cedron) أثناء لقاء بورخيس مع الطلبة وأساتذة الجامعة الوطنية لقرطبة (الأرجنتين ) في شتاء 1985 ، قبل بضعة أشهر من موته . [مجلة] Plural) ( عدد 208 ، يناير 1989 .   ترجم من الإسبانية من قبل سيسيليا بونتييه Cecilia Ponte) ( .

7 ـ أجرى الحوار إدواردو جيوردانو (Eduaro giordano) عند بورخيس ببوينس آيرس عام 1984 . مجلة Plural) ، عدد 185 ، فبراير 1987 ترجمه عن الإسبانية سسيليا بونتييه 

العظام والرميم

أيّام محمّد الأخيرة: قراءة نقديّة في كتاب هالة الوردي

سعاد حسني في بيروت

عشرة أيام هزت العالم

«ثورتان طفيليتان» كرديّة و «داعشية» صادرتا الانتفاضة الشعبيّة «السورية»

تأريخ الثورة البولشفية تتنازعه ثلاثة تيارات أو مذاهب: السوفياتي والليبرالي والمراجع